توقيت القاهرة المحلي 05:32:36 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الـكهف

  مصر اليوم -

الـكهف

بقلم - بسمة عبد العزيز

كتبت صديقةٌ عزيزةٌ على صفحتها بفيس بوك، عبارةً قصيرةً، تعلن فيها أنها مُتيقّنة مِن وجود سببٍ أو ربما أسباب؛ تشرح سلوكها الغريب. سلوكٌ تلقائيٌّ عابر، قد يمر دون أن يتوقف فاعلُه أمامه؛ لكنها راقبت نفسَها تقوم به، ويبدو أنها اندهشت له، وشعرت أنه لا ينتمي إليها، ولا يدخل ضِمن طباعِها المُعتادة. قالت: ”هو أكيد في تفسير لقعادي في العربية تحت البيت بتاع ١٠ دقايق قبل ما أقرر أطلع“. جاءت ردود تطمئنها وتخفِّف عنها، وأخرى تمزح معها، وثالثةٌ تقرر أن الأمر بات ”عاديًا“، وأنه ”مرضٌ منتشر“ بين كثيرين.

***

سمعت مِن بعض الأصدقاء؛ كيف يستقلون عرباتهم، فيطوفون بها دون داعٍ، وبلا هدف مُحدَّد، لفترات قد تمتد أحيانًا وتطول. يفضلون المكوث في العربة عن الخروج منها، لا علاقة للطقس باحتمائهم بها، ولا ضرورة بعينها تدعوهم إلى الإقامة أمام عجلة قيادتها. يرجون أن يطول الطريق فيصبح بلا نهاية، وتحبطهم فكرة العودة إلى بيتٍ، أو مَحَلَّ عَمَلٍ، أو حتى الجلوس على مَقهى. يستريحون إلى الحركة المتواصلة الدؤوبة، ويتوترون عند التوقف عنها. هل يستدعي التوقُّفُ أفكارًا بعينها؟ هل يتيح للتساؤلات المؤرقة أن تهاجم أصحابَها، ما كَفَّت العجلات عن الدوران؟

***

أَنصَتّ مراتٍ لآخرين، يتحدثون عن الجلوس داخل العربة دون مغادرة المكان. تقول واحدة مِن الصديقات؛ بمجرد أن أغلق باب العربة المركونة أسفل المنزل، ذاهبة إلى عملي، أو إلى أي مكان آخر، أتجمد وتضيع إرادتي. أدسّ المفتاح وأظل ساكنة؛ لا أدير المُحرِّك ولا أصنع شيئًا، وكأن شللا قد أصاب نفسي وأعجزها عن أداء ذلك الفعل البسيط، ولولا تَوَجُّس حارس العقار مِنّي لقضيت اليوم على هذه الحال. الأمر نفسه أكرره حين أصل المكان المرغوب. أطفئ المحرك وألبث في سكون، لا أفتح الباب ولا تبدر مني حركةٌ واحدةٌ تعكس كثرة همومي وأشغالي، أو توحي على الأقل بأنني لا أزال على قيد الحياة. العربة هي الكهف الذي يعزلني عن مؤثرات؛ صارت من السخافة والإلحاح بمكان، حتى تحول الهروب منها إلى راحة عظيمة، ولو في صندوق مَحدود المساحة؛ لا يسمح بالتمدُّد ولا يعطي للجسمِ راحتَه، ألوذ بعربتي ولا أحب مفارقتها.

***

طرحت صديقتي صاحبة المنشور الفُسبوكيّ، عددًا مِن الأسئلة، دارت بذهنها وهي قابعة في العربة؛ أسئلة مِن قبيل؛ ما الذي دفعها منذ البداية لتركِ البيت والذهابِ إلى العمل؟ وما الذي يحدثُ إن هي قررت المُكوثَ مَكانها؟ وما إذا كانت هناك وسيلة تنقلها رأسًا إلى بيتها، دون أن تضطر إلى الخروج مِن العربة؟! قُوبِلَت أسئلتُها بأخرى مُتباينة، وبتعبيراتٍ ضاحكةٍ خفيفة من المُشاركين. وَجَدت في جميعها ما يستَحِّثُ التفكيرَ، ورأيتها تُبطِن ما هو أبعد مِن وصلةِ هزلٍ وتنكيت. مَشقّةُ الخروج مِن الصومعةِ هي الأعظم، وصعوبةُ تركِ لحظات الهدوء القليلة هي الأقسى، إعطاءُ الأمرَ للعضلاتِ بالتقلُّصِ والانقباضِ ثم الانبساط، باعثٌ على الكلل والسأم والضيق، أما عن جدوى مُمارسة الحياة بمفرداتها واختياراتها الكثيرة؛ فحديثٌ يطول، خاصة حين يطرحه مَن لم يبارحوا بعد سني الشباب.

***

مع توالي الاعترافات، اكتشفت أن هذا العَرَضَ الذي أصابني منذ أسابيع خَلَت، ولازمني حتى الآن، ما هو إلا جزءٌ مِن وباء عام. تصورت أنني وحدي أنتهز الفرصةَ؛ فأتوقف بجوار الشجرة أسفل بيتي، أنفرد بذاتي بُرهة مِن الزمن لا يخترقها أحد، وأنخرط في صمتٍ وسلامٍ مَفقودين، فإذا بي أكتشف أن العربةَ - لمن يملكون في هذه الأيام عربة- صارت ملجأ وملاذًا، استحالت كهفًا، يمكن الخلود إليه للوقاية مِن مُنغِّصاتٍ تُطارد الجميع. العربةُ مَهربٌ مَعقولٌ ومَقبولٌ؛ لا يتطلَّب جهدًا، ولا حجزًا مُسبقًا، ولا مالًا وفيرًا. مساحةٌ خاصةٌ، تحمينا مَجازًا مِن مواجهات لا نريدها، ومِن مُبادرات لا نتخذها، ومِن مناوشات قد يتوجب علينا أن نخوضَها؛ لكنا لا نرغب ولا نملك طاقةً تكفيها. العربة الآن بمنزلة حِصنٍ جديد - قديم، هيكل مُغلق، يوفر لنا أمانًا مَعنويًا؛ لكنه للأسف لحظيٌّ.

***

غدت علاقتي بالعربة أكثر حميمية مِن ذي قبل، وأظن مثلي صديقات وأصدقاء كُثر. ربما أصبحت حالنا معها أشبه ببيات مُؤقت؛ لا يرتبط بموسم شتويّ أو صيفيّ، بل بمناخ سياسيّ واجتماعيّ، ينعكس على ذواتنا المرهقة، فيقعدها ويدفعها إلى طلب الهُدنة، ويحضُّ أجسامَنا على العصيان، ويغوينا بالكُمُون.

نقلا عن الشروق القاهريه

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الـكهف الـكهف



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:31 2020 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

لعنة الغيابات تضرب بيراميدز قبل مواجهة الطلائع في الكأس

GMT 07:46 2020 الأحد ,11 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار الأسماك في مصر اليوم الأحد 11 تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:43 2020 الجمعة ,09 تشرين الأول / أكتوبر

فنانة شابة تنتحر في ظروف غامضة

GMT 21:14 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

مؤشرا البحرين يقفلان التعاملات على ارتفاع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon