بقلم - بسمة عبد العزيز
كتبت صديقةٌ عزيزةٌ على صفحتها بفيس بوك، عبارةً قصيرةً، تعلن فيها أنها مُتيقّنة مِن وجود سببٍ أو ربما أسباب؛ تشرح سلوكها الغريب. سلوكٌ تلقائيٌّ عابر، قد يمر دون أن يتوقف فاعلُه أمامه؛ لكنها راقبت نفسَها تقوم به، ويبدو أنها اندهشت له، وشعرت أنه لا ينتمي إليها، ولا يدخل ضِمن طباعِها المُعتادة. قالت: ”هو أكيد في تفسير لقعادي في العربية تحت البيت بتاع ١٠ دقايق قبل ما أقرر أطلع“. جاءت ردود تطمئنها وتخفِّف عنها، وأخرى تمزح معها، وثالثةٌ تقرر أن الأمر بات ”عاديًا“، وأنه ”مرضٌ منتشر“ بين كثيرين.
***
سمعت مِن بعض الأصدقاء؛ كيف يستقلون عرباتهم، فيطوفون بها دون داعٍ، وبلا هدف مُحدَّد، لفترات قد تمتد أحيانًا وتطول. يفضلون المكوث في العربة عن الخروج منها، لا علاقة للطقس باحتمائهم بها، ولا ضرورة بعينها تدعوهم إلى الإقامة أمام عجلة قيادتها. يرجون أن يطول الطريق فيصبح بلا نهاية، وتحبطهم فكرة العودة إلى بيتٍ، أو مَحَلَّ عَمَلٍ، أو حتى الجلوس على مَقهى. يستريحون إلى الحركة المتواصلة الدؤوبة، ويتوترون عند التوقف عنها. هل يستدعي التوقُّفُ أفكارًا بعينها؟ هل يتيح للتساؤلات المؤرقة أن تهاجم أصحابَها، ما كَفَّت العجلات عن الدوران؟
***
أَنصَتّ مراتٍ لآخرين، يتحدثون عن الجلوس داخل العربة دون مغادرة المكان. تقول واحدة مِن الصديقات؛ بمجرد أن أغلق باب العربة المركونة أسفل المنزل، ذاهبة إلى عملي، أو إلى أي مكان آخر، أتجمد وتضيع إرادتي. أدسّ المفتاح وأظل ساكنة؛ لا أدير المُحرِّك ولا أصنع شيئًا، وكأن شللا قد أصاب نفسي وأعجزها عن أداء ذلك الفعل البسيط، ولولا تَوَجُّس حارس العقار مِنّي لقضيت اليوم على هذه الحال. الأمر نفسه أكرره حين أصل المكان المرغوب. أطفئ المحرك وألبث في سكون، لا أفتح الباب ولا تبدر مني حركةٌ واحدةٌ تعكس كثرة همومي وأشغالي، أو توحي على الأقل بأنني لا أزال على قيد الحياة. العربة هي الكهف الذي يعزلني عن مؤثرات؛ صارت من السخافة والإلحاح بمكان، حتى تحول الهروب منها إلى راحة عظيمة، ولو في صندوق مَحدود المساحة؛ لا يسمح بالتمدُّد ولا يعطي للجسمِ راحتَه، ألوذ بعربتي ولا أحب مفارقتها.
***
طرحت صديقتي صاحبة المنشور الفُسبوكيّ، عددًا مِن الأسئلة، دارت بذهنها وهي قابعة في العربة؛ أسئلة مِن قبيل؛ ما الذي دفعها منذ البداية لتركِ البيت والذهابِ إلى العمل؟ وما الذي يحدثُ إن هي قررت المُكوثَ مَكانها؟ وما إذا كانت هناك وسيلة تنقلها رأسًا إلى بيتها، دون أن تضطر إلى الخروج مِن العربة؟! قُوبِلَت أسئلتُها بأخرى مُتباينة، وبتعبيراتٍ ضاحكةٍ خفيفة من المُشاركين. وَجَدت في جميعها ما يستَحِّثُ التفكيرَ، ورأيتها تُبطِن ما هو أبعد مِن وصلةِ هزلٍ وتنكيت. مَشقّةُ الخروج مِن الصومعةِ هي الأعظم، وصعوبةُ تركِ لحظات الهدوء القليلة هي الأقسى، إعطاءُ الأمرَ للعضلاتِ بالتقلُّصِ والانقباضِ ثم الانبساط، باعثٌ على الكلل والسأم والضيق، أما عن جدوى مُمارسة الحياة بمفرداتها واختياراتها الكثيرة؛ فحديثٌ يطول، خاصة حين يطرحه مَن لم يبارحوا بعد سني الشباب.
***
مع توالي الاعترافات، اكتشفت أن هذا العَرَضَ الذي أصابني منذ أسابيع خَلَت، ولازمني حتى الآن، ما هو إلا جزءٌ مِن وباء عام. تصورت أنني وحدي أنتهز الفرصةَ؛ فأتوقف بجوار الشجرة أسفل بيتي، أنفرد بذاتي بُرهة مِن الزمن لا يخترقها أحد، وأنخرط في صمتٍ وسلامٍ مَفقودين، فإذا بي أكتشف أن العربةَ - لمن يملكون في هذه الأيام عربة- صارت ملجأ وملاذًا، استحالت كهفًا، يمكن الخلود إليه للوقاية مِن مُنغِّصاتٍ تُطارد الجميع. العربةُ مَهربٌ مَعقولٌ ومَقبولٌ؛ لا يتطلَّب جهدًا، ولا حجزًا مُسبقًا، ولا مالًا وفيرًا. مساحةٌ خاصةٌ، تحمينا مَجازًا مِن مواجهات لا نريدها، ومِن مُبادرات لا نتخذها، ومِن مناوشات قد يتوجب علينا أن نخوضَها؛ لكنا لا نرغب ولا نملك طاقةً تكفيها. العربة الآن بمنزلة حِصنٍ جديد - قديم، هيكل مُغلق، يوفر لنا أمانًا مَعنويًا؛ لكنه للأسف لحظيٌّ.
***
غدت علاقتي بالعربة أكثر حميمية مِن ذي قبل، وأظن مثلي صديقات وأصدقاء كُثر. ربما أصبحت حالنا معها أشبه ببيات مُؤقت؛ لا يرتبط بموسم شتويّ أو صيفيّ، بل بمناخ سياسيّ واجتماعيّ، ينعكس على ذواتنا المرهقة، فيقعدها ويدفعها إلى طلب الهُدنة، ويحضُّ أجسامَنا على العصيان، ويغوينا بالكُمُون.
نقلا عن الشروق القاهريه