توقيت القاهرة المحلي 09:04:39 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مُجتمَع شائخٌ.. مُجتمَع فتىّ

  مصر اليوم -

مُجتمَع شائخٌ مُجتمَع فتىّ

بقلم - بسمة عبد العزيز

وسط أزماتٍ مُتلاحقة ومُتداخلة تطرقُ أبوابَ العالم، ينتاب المسئولين فى اليابان قلقٌ عميقٌ، لا مِن تهديداتٍ نوويةٍ أو توتراتٍ اقتصاديةٍ، بل مِن أمرٍ يبدو فى ظاهره صِحيًا، مُبشِّرًا، لكنه فى باطِنه باعثٌ على هواجسٍ ومَخاوفٍ شتّى؛ فمتوسط الأعمار لدى الشعب اليابانيّ فى سبيله إلى تحقيق طفرةٍ جديدةٍ، يصل فيها إلى التسعين عامًا بحلول عام ألفين وخمسين.

يعنى هذا أن يتوجه الاقتصاد ــ الذى يحتل مَرتبةً مُتقدمةً على مستوى العالمــ إلى إقامة مشاريع غير إنتاجية، أكثر فأكثر، تؤمن لهؤلاء الذين تقدَّم بهم العمر خدماتٍ نوعية ورعايةً خاصة، وتلك تستهلك أموالًا طائلةً دون عائد مُقابِل، ومِن ثمّ يتراجع الإنفاقُ على أصعدة أخرى؛ هى أعلى تحقيقًا للثروة، وتأمينًا لنفوذ الدولة. الامبراطورية التى سُمِّيَت قديمًا بمَنبَع الشمس، يُخشى عليها أن تصبحَ فى غضون عقودٍ قليلة؛ امبراطورية الظلال الباهتة.

الحديثُ عن تحوِّل التركيبة العمرية للمُجتمَع اليابانيّ مُستمر ومُتزايد، لكن مَن يشاهد برامجَ أو أفلام توثيقية عن اليابان، ومَن يقرأ حول نمطِ الحياة فيها وعن الظواهر التى تُميزها عن أى بلدٍ آخر، ربما لا يكتنفه للحظةٍ واحدةٍ شعور بأن هذا المُجتمَع فى خطرٍ، وأن الدراسات تُعَد، والنقاشاتَ تدور، والاجتماعاتَ تنعقد، لبحث سبل إنقاذه. يكفى لبث الاطمئنان، أن أكثر مِن ربع سكان اليابان وصلوا إلى سن التقاعد أو تخطّوه، لكن كثيرَهم يعمل ويعمل، ولا يكُف عن العمل، وحين يُطلَب مِن رجلٍ أو امرأةٍ على حدٍّ سواء؛ الخلود إلى الراحة ولو قليلًا، يأتى الرفضُ البات؛ فالراحة تعنى موتًا مؤقتًا، لا سعادة ولا استمتاع.

بعضُ المجتمعات كما اليابان، تبدو شابةً فتيةً بأدائِها، رغم أن عددَ كبار السّن فيها يفوق النِسَبَ المُعتادة، بينما تلوح مُجتمعاتٌ أخرى هَرِمة، مُتداعية، رغم أنَّ صغار السّن يمثلون فيها النسبةَ العظمى؛ تحوم فى سمائها روح شائخة؛ هى أقرب إلى النهايات مِنها إلى البدايات، تملؤها التجاعيد شابةً فتُقعِدها، ويغزو فتيانها وفتياتها تعبٌ وإرهاقٌ بلا عمل يُؤدى، ولا جهد يُبذَل، وكأن هزيمةً كاملةً قد سحقت أحشاءهم وهرستها، وأورثتهم مرارة وانكسارًا.

تقترب نسبةُ صغارِ السّن فى مُجتمَعنا مِن أربعين فى المائة، وهى نسبة شديدة الارتفاع إذ ما قورنت ببلدانٍ أخرى مُتقدمة؛ مصر إذًا مُجتمع شاب، يتوقع المرءُ أن يرى فيه وهجًا وتألقًا، إنتاجًا وعزيمةً وقوةَ دفعٍ لا غالب لها، مع ذلك يبدو البؤسُ عظيمًا، وفى قسمات الناس كآبة تلوح؛ لا همة ولا رغبة فى تحقيق إنجاز، بل خواء وأصداء فارغة وكهول مُثقلة؛ كأنها لمَن تجاوز الألفَ عام. مُجتمَعنا فى عنفوان الشباب طبقًا للإحصاءات والأرقام، فى أواخر أيامه طبقًا للمظاهر والأعراض.

قد تُعزى المُفارقةُ إلى شظف العيش وتردى الأوضاع، لكنّ هذا أو ذاك لا يبرر تراخيًا واستسلامًا حاضرين فى العيون، ولا يفسر خضوعًا وانتظارًا لأجلٍ مَحتوم، بل قد يمثلُ فى مُجتمَعاتٍ أخرى دافعًا لمزيد مِن الكفاح، وحافزًا على قبول التحدى، وشقِّ الطريق والنهوض مِن وضع الرِقاد. الفقر لم يكُن يومًا عائقًا أمام أُممٍ يملؤ الأملُ شعوبَها، ويبثُّ القوةَ والعافيةَ فى شرايين رجالها ونساءها؛ شابات وشبان، وعجائز وكهول.

على كلٍّ؛ الفقر عندنا حالٌ مُصطنعة، والموارد الاقتصادية وافرة كما يدرك كثيرون؛ لا تحتاج إلا لضمائرٍ سليمة، وعقولٍ تتدبر أمرَها وتستثمرها على أفضل وجه. صدق حافظ ابراهيم وأوفى، حين سأل يستنكر الأوضاع منذ عقود: ”أيشتكى الفقرَ غادينا ورائحنا.. ونحن نمشى على أرض من الذهب!“. هذا البيت فى ظنى حقيقة، لا مُبالغة فيها ولا تهويل، فبلد يملِك ما لنا مِن ميزات جغرافية ومِن تاريخ وحضارة، لا أقل مِن أن يغدو سيدًا عزيزًا مهابًا؛ لا عبدًا ذليلًا. أن يحيا أهله أصحاء الجسدِ والروح؛ لا كسيريهما.

الحدّ الفاصلُ بين الحالين ليس سرًا، إنها روح الأمل والطموح؛ تغيب عن مُجتمَع؛ فيتهدل وتعلو صفحتَه خطوطُ المَشيب، وتُنفَخ فى مُجتمَعٍ آخر؛ فيتوهَّج وتتلألآ صفحتُه وتزدهر.

 

 

 

نقلا عن الشروق القاهريه

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مُجتمَع شائخٌ مُجتمَع فتىّ مُجتمَع شائخٌ مُجتمَع فتىّ



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:50 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله
  مصر اليوم - إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله

GMT 08:31 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف
  مصر اليوم - أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف

GMT 15:58 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

نيقولا معوّض في تجربة سينمائية جديدة بالروسي
  مصر اليوم - نيقولا معوّض في تجربة سينمائية جديدة بالروسي

GMT 09:07 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 01:15 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل ألعاب يمكن تحميلها الآن على هاتف الآيفون مجانا

GMT 06:21 2019 السبت ,19 كانون الثاني / يناير

نوبة قلبية تقتل "الحصان وصاحبته" في آن واحد

GMT 22:33 2018 الأربعاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد ممدوح يوجه الشكر للجامعة الألمانية عبر "انستغرام"

GMT 16:44 2018 الإثنين ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمن المركزي يحبط هجومًا انتحاريًا على كمين في "العريش"

GMT 03:36 2018 الجمعة ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

"طرق التجارة في الجزيرة العربية" يضيف 16 قطعة من الإمارات

GMT 01:03 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة عمل العيش السوري او فاهيتاس بسهولة فى البيت

GMT 08:12 2018 الثلاثاء ,11 أيلول / سبتمبر

ليدي غاغا تُظهر أناقتها خلال العرض الأول لفيلمها

GMT 16:10 2018 السبت ,01 أيلول / سبتمبر

جماهير روما تهاجم إدارة النادي بعد ضربة ميلان
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon