توقيت القاهرة المحلي 10:32:52 آخر تحديث
  مصر اليوم -

خَطٌّ أحمر

  مصر اليوم -

خَطٌّ أحمر

بقلم : بسمة عبد العزيز

 خطٌّ أحمر. تعبير قصير، شائع الاستخدام في اشتقاقات مُختلفة ومَواقف مُتباينة. في سالف الزمان، كانت الأرضُ على سبيل المثال خطًا أحمر؛ لا يُفرِّط فيها إنسانٌ، صيانتُها واجبةٌ مَهما كان الثمنُ الذي يدفعه صاحبها؛ مِن مالِه وصحتِه أو أمانه الشخصيّ، والموتُ دونها شرفٌ. يُجِلُّ المُجتمعُ مَن يدافع عنها ويحميها، ويحتقر مَن يُساوم عليها أو يتنازل عنها. كانت القدسُ تاريخًا وترابًا بمنزلة خطٍّ أحمر؛ لكن اختلاف الأزمنةِ غَيَّر على ما يبدو الألوان.

الأحمر لونُ الخطر؛ لونُ الدماءِ والشراسة، وقد جرى العرف في ساحات السياسة على استخدام ”الخَطّ الأحمر“؛ تهديدًا ووعيدًا، وحين لم يعُد الخطُّ الواحد كافيًا، تحول سريعًا إلى خطوطٍ كثيرة، ترسم للناس ما يُقال وما لا يُقال؛ تُنبِّه إلى ما قد تغُضُّ السُلطةُ طرفَها عنه وتتجاهلَه، وما لا يُمكِن أن يمُر عليها مُرور الكِرام.

في عهودٍ سابقة كانت الخطوطُ الحمراءُ مَعروفة مُحدَّدة، تَجَاوُزُها يَستجلِب صورةً مِن صور العقاب، والالتزام بها يُؤَمِّن صاحبَه ويضمن سلامَته. خطوطٌ مُتَّفقٌ عليها، يُدركها الجميع، كما يدركون على وجه التقريب رَدَّ الفعل إزاء طَرقِها؛ طرقًا خفيفًا لينًا، أو خَمشها وخَدشها، أو حتى كسرها.

تُقرِّر قوانينُ الطبيعةِ أنَّ لِكُل فِعل ردَّ فعل، مُضاد له في الاتجاه ومُساو في القوة؛ لكن سقوطَ المبادئ والخطوط والعلامات، وتفتُّتِها، وانهيار ما تَعارف عليه الناسُ مِن البديهيات والمُسلَّمات؛ جعل لكُلِّ فعلٍ ردًا مُنعزلًا عنه، غالبًا ما يفوقه ويتجاوزه بمئات المرات.

يقول كثيرون مِن أصحابِ الأقلام وأربابِ حِرفة الكتابة، إن الخطوطَ الحمراءَ تلاشت وانمحت. لم تعد هناك مَحظوراتٌ صريحةٌ واضحة، وثابتة كما في الماضي القريب؛ فيومًا وراء يومٍ وساعة بعد ساعةٍ، يُضافُ إلى القائمة مَحظورٌ جديد. يقولون إنَّ الأمرَ أصبح عائمًا غائمًا، لا إطار له ولا ضوابط حاكمة. الكلمةُ الواحدة تُفَسَّر بطُرق عِدة، وتُحمَل على أكثر مِن وجه؛ لا تبعًا للسياق الذي ظهرت فيه فقط؛ بل ارتباطًا بعوامل أخرى، منها إحكام السيطرة، وليّ الأذرع، وقصف الأدمغة.

ثمّة رسائل تُبَث هنا بطريق غير مباشرة؛ فغياب القاعدةِ المُتبَعة وإن كانت قامعةً قاهرة؛ ليس إلا رسالة ترويع وتخويف، حال مُزمنة مِن التوتر والترقُّب، تلِفُّ الأجواءَ، وتستنفذُ القدرةَ على التكيُّف والتعايُش. المُحصِّلة النهائية؛ كُتاب ومفكرون يهجرون أوراقَهم، آخرون يهاجرون إلى فضاءات أرحب ويختارون عبورَ الحدود. شللٌّ يصيب كثيرين، فيعزفون عن إنتاج أيّ نصٍّ؛ لصحيفة أو مجلة، أو كتاب. الحكمة السائدة الآن: ”ابعد عن الشر وغني له“، الغناءُ نفسه انضم إلى مصادر الخطر؛ لم يعد المطربون والشعراء والملحنون في مَأمَن، ومثلهم المسرحيون والسينمائيون ومَن التحق بسفائنهم وركائبهم؛ كلٌّ في مَهَبِّ الريح سواء.

حساسية أي نظام سياسيّ للكلمة أمر يصعب الجدال فيه، وضعفه الظاهر أو الخفيّ بمنزلة عامل؛ يزيد مِن تلك الحساسية ويضاعفها، كيف لا؛ ومُؤسسات الحُكم القوية ذاتها، المُستقرة في بلدانها، تهزّها الكلمةُ وترجُّها رجًا. مُؤسسات الحُكم في الولايات المتحدة على عِظَم قدرها؛ تُفجِعها تدوينةُ جديدة مِن الرئيس ترامب، وتزلزلُ أركانَها تغريدةٌ تصدر عنه في غير مَحلِّها. فارقٌ بينها وبين نُظُم حُكم أخرى، تتوزع في أنحاء المعمورة، أنها لا تعتدي دون جريرة على مواطنيها، تشريعاتها مَصونة ومُعادلاتها مَنطقية مُحكَمة، والخطأ لديها يقابله تعريفٌ راسخٌ في القانون، وعقوبةٌ لا تنكيل فيها ولا انتقام؛ خطوطها الحمراء ليست شفهية ولا عشوائية أو انفعالية، لا تُناقِض مواد الدستورَ أو تنتهكُ الحقوقَ الأساسية للناس.

لا أدري متى ظهر تعبير ”خَطٌّ أحمر“ في الخطاب السياسيّ، ولا تصورت يومًا أنني أكتب مَرثية في وفاةِ الخطوطِ الحمراء؛ إنما هو تداعي الأحوال وانحدارها بما لم يكُن أبدًا في الحسبان.

 نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خَطٌّ أحمر خَطٌّ أحمر



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:42 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة
  مصر اليوم - أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة

GMT 10:08 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد
  مصر اليوم - وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد

GMT 09:50 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل
  مصر اليوم - نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل

GMT 00:01 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

"لطفي لبيب يودع الساحة الفنية ويعلن اعتزاله نهائيًا"
  مصر اليوم - لطفي لبيب يودع الساحة الفنية ويعلن اعتزاله نهائيًا

GMT 14:55 2021 الخميس ,04 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 07:29 2020 الأربعاء ,17 حزيران / يونيو

ارمينيا بيليفيلد يصعد إلى الدوري الألماني

GMT 13:03 2017 الخميس ,07 كانون الأول / ديسمبر

"فولكس فاغن" تستعرض تفاصيل سيارتها الجديدة "بولو 6 "

GMT 18:07 2017 الأربعاء ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

المنتخب الإيطالي يتأهب لاستغلال الفرصة الأخيرة

GMT 07:24 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

دراسة توضح علاقة القهوة بأمراض القلب

GMT 22:13 2024 الجمعة ,07 حزيران / يونيو

بسبب خلل كيا تستدعي أكثر من 462 ألف سيارة

GMT 00:02 2023 الجمعة ,20 كانون الثاني / يناير

مبيعات فولكس فاغن تتجاوز نصف مليون سيارة في 2022

GMT 08:36 2021 الخميس ,07 تشرين الأول / أكتوبر

أيتن عامر تحذر من المسلسل الكوري «squid games»

GMT 20:44 2021 الأربعاء ,15 أيلول / سبتمبر

شيرين رضا تتعرض للخيانة الزوجية من صديقتها المقربة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon