توقيت القاهرة المحلي 12:08:20 آخر تحديث
  مصر اليوم -

خَطٌّ أحمر

  مصر اليوم -

خَطٌّ أحمر

بقلم : بسمة عبد العزيز

 خطٌّ أحمر. تعبير قصير، شائع الاستخدام في اشتقاقات مُختلفة ومَواقف مُتباينة. في سالف الزمان، كانت الأرضُ على سبيل المثال خطًا أحمر؛ لا يُفرِّط فيها إنسانٌ، صيانتُها واجبةٌ مَهما كان الثمنُ الذي يدفعه صاحبها؛ مِن مالِه وصحتِه أو أمانه الشخصيّ، والموتُ دونها شرفٌ. يُجِلُّ المُجتمعُ مَن يدافع عنها ويحميها، ويحتقر مَن يُساوم عليها أو يتنازل عنها. كانت القدسُ تاريخًا وترابًا بمنزلة خطٍّ أحمر؛ لكن اختلاف الأزمنةِ غَيَّر على ما يبدو الألوان.

الأحمر لونُ الخطر؛ لونُ الدماءِ والشراسة، وقد جرى العرف في ساحات السياسة على استخدام ”الخَطّ الأحمر“؛ تهديدًا ووعيدًا، وحين لم يعُد الخطُّ الواحد كافيًا، تحول سريعًا إلى خطوطٍ كثيرة، ترسم للناس ما يُقال وما لا يُقال؛ تُنبِّه إلى ما قد تغُضُّ السُلطةُ طرفَها عنه وتتجاهلَه، وما لا يُمكِن أن يمُر عليها مُرور الكِرام.

في عهودٍ سابقة كانت الخطوطُ الحمراءُ مَعروفة مُحدَّدة، تَجَاوُزُها يَستجلِب صورةً مِن صور العقاب، والالتزام بها يُؤَمِّن صاحبَه ويضمن سلامَته. خطوطٌ مُتَّفقٌ عليها، يُدركها الجميع، كما يدركون على وجه التقريب رَدَّ الفعل إزاء طَرقِها؛ طرقًا خفيفًا لينًا، أو خَمشها وخَدشها، أو حتى كسرها.

تُقرِّر قوانينُ الطبيعةِ أنَّ لِكُل فِعل ردَّ فعل، مُضاد له في الاتجاه ومُساو في القوة؛ لكن سقوطَ المبادئ والخطوط والعلامات، وتفتُّتِها، وانهيار ما تَعارف عليه الناسُ مِن البديهيات والمُسلَّمات؛ جعل لكُلِّ فعلٍ ردًا مُنعزلًا عنه، غالبًا ما يفوقه ويتجاوزه بمئات المرات.

يقول كثيرون مِن أصحابِ الأقلام وأربابِ حِرفة الكتابة، إن الخطوطَ الحمراءَ تلاشت وانمحت. لم تعد هناك مَحظوراتٌ صريحةٌ واضحة، وثابتة كما في الماضي القريب؛ فيومًا وراء يومٍ وساعة بعد ساعةٍ، يُضافُ إلى القائمة مَحظورٌ جديد. يقولون إنَّ الأمرَ أصبح عائمًا غائمًا، لا إطار له ولا ضوابط حاكمة. الكلمةُ الواحدة تُفَسَّر بطُرق عِدة، وتُحمَل على أكثر مِن وجه؛ لا تبعًا للسياق الذي ظهرت فيه فقط؛ بل ارتباطًا بعوامل أخرى، منها إحكام السيطرة، وليّ الأذرع، وقصف الأدمغة.

ثمّة رسائل تُبَث هنا بطريق غير مباشرة؛ فغياب القاعدةِ المُتبَعة وإن كانت قامعةً قاهرة؛ ليس إلا رسالة ترويع وتخويف، حال مُزمنة مِن التوتر والترقُّب، تلِفُّ الأجواءَ، وتستنفذُ القدرةَ على التكيُّف والتعايُش. المُحصِّلة النهائية؛ كُتاب ومفكرون يهجرون أوراقَهم، آخرون يهاجرون إلى فضاءات أرحب ويختارون عبورَ الحدود. شللٌّ يصيب كثيرين، فيعزفون عن إنتاج أيّ نصٍّ؛ لصحيفة أو مجلة، أو كتاب. الحكمة السائدة الآن: ”ابعد عن الشر وغني له“، الغناءُ نفسه انضم إلى مصادر الخطر؛ لم يعد المطربون والشعراء والملحنون في مَأمَن، ومثلهم المسرحيون والسينمائيون ومَن التحق بسفائنهم وركائبهم؛ كلٌّ في مَهَبِّ الريح سواء.

حساسية أي نظام سياسيّ للكلمة أمر يصعب الجدال فيه، وضعفه الظاهر أو الخفيّ بمنزلة عامل؛ يزيد مِن تلك الحساسية ويضاعفها، كيف لا؛ ومُؤسسات الحُكم القوية ذاتها، المُستقرة في بلدانها، تهزّها الكلمةُ وترجُّها رجًا. مُؤسسات الحُكم في الولايات المتحدة على عِظَم قدرها؛ تُفجِعها تدوينةُ جديدة مِن الرئيس ترامب، وتزلزلُ أركانَها تغريدةٌ تصدر عنه في غير مَحلِّها. فارقٌ بينها وبين نُظُم حُكم أخرى، تتوزع في أنحاء المعمورة، أنها لا تعتدي دون جريرة على مواطنيها، تشريعاتها مَصونة ومُعادلاتها مَنطقية مُحكَمة، والخطأ لديها يقابله تعريفٌ راسخٌ في القانون، وعقوبةٌ لا تنكيل فيها ولا انتقام؛ خطوطها الحمراء ليست شفهية ولا عشوائية أو انفعالية، لا تُناقِض مواد الدستورَ أو تنتهكُ الحقوقَ الأساسية للناس.

لا أدري متى ظهر تعبير ”خَطٌّ أحمر“ في الخطاب السياسيّ، ولا تصورت يومًا أنني أكتب مَرثية في وفاةِ الخطوطِ الحمراء؛ إنما هو تداعي الأحوال وانحدارها بما لم يكُن أبدًا في الحسبان.

 نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خَطٌّ أحمر خَطٌّ أحمر



GMT 20:57 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

المفتاح الأساسي لإنهاء حرب السودان

GMT 20:53 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

عفونة العقل حسب إيلون ماسك

GMT 20:49 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

أميركا تناشد ‏الهند وباكستان تجنب «الانفجار المفاجئ»

GMT 20:45 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

عودوا إلى دياركم

GMT 09:44 2025 الخميس ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

من زهران إلى خان... كل منهما محكوم بالأسطورة القديمة

GMT 08:11 2025 الأربعاء ,31 كانون الأول / ديسمبر

رحلة سياحية لاكتشاف فرنسا بعيون جديدة في عام 2026
  مصر اليوم - رحلة سياحية لاكتشاف فرنسا بعيون جديدة في عام 2026

GMT 08:26 2025 الأربعاء ,31 كانون الأول / ديسمبر

نباتات تضيف لمسة طبيعية إلى ديكور منزلكِ في 2026
  مصر اليوم - نباتات تضيف لمسة طبيعية إلى ديكور منزلكِ في 2026

GMT 17:18 2025 الثلاثاء ,30 كانون الأول / ديسمبر

ترامب يوضح موقفه من المناورات الصينية حول تايوان
  مصر اليوم - ترامب يوضح موقفه من المناورات الصينية حول تايوان

GMT 11:45 2025 الأربعاء ,31 كانون الأول / ديسمبر

ناسا تحدد “الموقع المثالي” للهبوط البشري على المريخ
  مصر اليوم - ناسا تحدد “الموقع المثالي” للهبوط البشري على المريخ

GMT 09:41 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم برج العقرب الجمعة 05 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 08:55 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم برج الأسد الجمعة 05 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 08:41 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم برج الحمل الجمعة 05 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 09:56 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم برج الحوت الجمعة 05 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 03:47 2018 الجمعة ,05 كانون الثاني / يناير

المقاولون العرب يفوز على المقاصة بهدفين نظيفين

GMT 02:11 2016 الثلاثاء ,09 آب / أغسطس

باسم مرسي يتسبب في اصابة سعد سمير

GMT 12:49 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

اجتماع امني بين مصر واسرائيل حول معبر رفح ومحور فيلادلفيا

GMT 08:22 2024 الأربعاء ,01 أيار / مايو

وصفات طبيعية للعناية بالشعر
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt