توقيت القاهرة المحلي 13:28:44 آخر تحديث
  مصر اليوم -

خَطٌّ أحمر

  مصر اليوم -

خَطٌّ أحمر

بقلم : بسمة عبد العزيز

 خطٌّ أحمر. تعبير قصير، شائع الاستخدام في اشتقاقات مُختلفة ومَواقف مُتباينة. في سالف الزمان، كانت الأرضُ على سبيل المثال خطًا أحمر؛ لا يُفرِّط فيها إنسانٌ، صيانتُها واجبةٌ مَهما كان الثمنُ الذي يدفعه صاحبها؛ مِن مالِه وصحتِه أو أمانه الشخصيّ، والموتُ دونها شرفٌ. يُجِلُّ المُجتمعُ مَن يدافع عنها ويحميها، ويحتقر مَن يُساوم عليها أو يتنازل عنها. كانت القدسُ تاريخًا وترابًا بمنزلة خطٍّ أحمر؛ لكن اختلاف الأزمنةِ غَيَّر على ما يبدو الألوان.

الأحمر لونُ الخطر؛ لونُ الدماءِ والشراسة، وقد جرى العرف في ساحات السياسة على استخدام ”الخَطّ الأحمر“؛ تهديدًا ووعيدًا، وحين لم يعُد الخطُّ الواحد كافيًا، تحول سريعًا إلى خطوطٍ كثيرة، ترسم للناس ما يُقال وما لا يُقال؛ تُنبِّه إلى ما قد تغُضُّ السُلطةُ طرفَها عنه وتتجاهلَه، وما لا يُمكِن أن يمُر عليها مُرور الكِرام.

في عهودٍ سابقة كانت الخطوطُ الحمراءُ مَعروفة مُحدَّدة، تَجَاوُزُها يَستجلِب صورةً مِن صور العقاب، والالتزام بها يُؤَمِّن صاحبَه ويضمن سلامَته. خطوطٌ مُتَّفقٌ عليها، يُدركها الجميع، كما يدركون على وجه التقريب رَدَّ الفعل إزاء طَرقِها؛ طرقًا خفيفًا لينًا، أو خَمشها وخَدشها، أو حتى كسرها.

تُقرِّر قوانينُ الطبيعةِ أنَّ لِكُل فِعل ردَّ فعل، مُضاد له في الاتجاه ومُساو في القوة؛ لكن سقوطَ المبادئ والخطوط والعلامات، وتفتُّتِها، وانهيار ما تَعارف عليه الناسُ مِن البديهيات والمُسلَّمات؛ جعل لكُلِّ فعلٍ ردًا مُنعزلًا عنه، غالبًا ما يفوقه ويتجاوزه بمئات المرات.

يقول كثيرون مِن أصحابِ الأقلام وأربابِ حِرفة الكتابة، إن الخطوطَ الحمراءَ تلاشت وانمحت. لم تعد هناك مَحظوراتٌ صريحةٌ واضحة، وثابتة كما في الماضي القريب؛ فيومًا وراء يومٍ وساعة بعد ساعةٍ، يُضافُ إلى القائمة مَحظورٌ جديد. يقولون إنَّ الأمرَ أصبح عائمًا غائمًا، لا إطار له ولا ضوابط حاكمة. الكلمةُ الواحدة تُفَسَّر بطُرق عِدة، وتُحمَل على أكثر مِن وجه؛ لا تبعًا للسياق الذي ظهرت فيه فقط؛ بل ارتباطًا بعوامل أخرى، منها إحكام السيطرة، وليّ الأذرع، وقصف الأدمغة.

ثمّة رسائل تُبَث هنا بطريق غير مباشرة؛ فغياب القاعدةِ المُتبَعة وإن كانت قامعةً قاهرة؛ ليس إلا رسالة ترويع وتخويف، حال مُزمنة مِن التوتر والترقُّب، تلِفُّ الأجواءَ، وتستنفذُ القدرةَ على التكيُّف والتعايُش. المُحصِّلة النهائية؛ كُتاب ومفكرون يهجرون أوراقَهم، آخرون يهاجرون إلى فضاءات أرحب ويختارون عبورَ الحدود. شللٌّ يصيب كثيرين، فيعزفون عن إنتاج أيّ نصٍّ؛ لصحيفة أو مجلة، أو كتاب. الحكمة السائدة الآن: ”ابعد عن الشر وغني له“، الغناءُ نفسه انضم إلى مصادر الخطر؛ لم يعد المطربون والشعراء والملحنون في مَأمَن، ومثلهم المسرحيون والسينمائيون ومَن التحق بسفائنهم وركائبهم؛ كلٌّ في مَهَبِّ الريح سواء.

حساسية أي نظام سياسيّ للكلمة أمر يصعب الجدال فيه، وضعفه الظاهر أو الخفيّ بمنزلة عامل؛ يزيد مِن تلك الحساسية ويضاعفها، كيف لا؛ ومُؤسسات الحُكم القوية ذاتها، المُستقرة في بلدانها، تهزّها الكلمةُ وترجُّها رجًا. مُؤسسات الحُكم في الولايات المتحدة على عِظَم قدرها؛ تُفجِعها تدوينةُ جديدة مِن الرئيس ترامب، وتزلزلُ أركانَها تغريدةٌ تصدر عنه في غير مَحلِّها. فارقٌ بينها وبين نُظُم حُكم أخرى، تتوزع في أنحاء المعمورة، أنها لا تعتدي دون جريرة على مواطنيها، تشريعاتها مَصونة ومُعادلاتها مَنطقية مُحكَمة، والخطأ لديها يقابله تعريفٌ راسخٌ في القانون، وعقوبةٌ لا تنكيل فيها ولا انتقام؛ خطوطها الحمراء ليست شفهية ولا عشوائية أو انفعالية، لا تُناقِض مواد الدستورَ أو تنتهكُ الحقوقَ الأساسية للناس.

لا أدري متى ظهر تعبير ”خَطٌّ أحمر“ في الخطاب السياسيّ، ولا تصورت يومًا أنني أكتب مَرثية في وفاةِ الخطوطِ الحمراء؛ إنما هو تداعي الأحوال وانحدارها بما لم يكُن أبدًا في الحسبان.

 نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خَطٌّ أحمر خَطٌّ أحمر



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 15:05 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي
  مصر اليوم - شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 08:11 2024 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:32 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

والدة الفنان المصري عمر كمال تكشف موقفها من عمله

GMT 09:42 2020 الأحد ,06 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على قائمة الإجازات الرسمية 2021 في مصر

GMT 02:51 2020 الجمعة ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابة لاعب الأهلي المصري محمد أشرف بكورونا

GMT 20:23 2020 الأربعاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

طوارئ في قرية في محافظة قنا بسبب كورونا

GMT 18:31 2020 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

مورينيو يوضح إصابة سون هي الأولى فقط المزيد قادم

GMT 09:49 2020 الإثنين ,27 تموز / يوليو

جيونبك يعزز موقعه في وصافة الدوري الكوري
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon