مرت بالأمس ذكرى اليوبيل الفضي لحدث كان في وقته محل ترحيب العالم بأسره؛ على اعتبار أنه يمثل علامة بارزة في تطويع الدبلوماسية الدولية سعياً لتحقيق مآرب السلام.
وإن تساءلتم ما الذي نتحدث عنه، فلا داعي للقلق. القليل من الناس بالفعل يذكرون هذا الحدث، والأكثرية تتظاهر بعدم تذكره. إننا نتحدث عما كان يسمى باتفاقات أوسلو للسلام التي صيغت بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية وزعيمها الراحل ياسر عرفات عبر المفاوضات السرية التي شهدتها العاصمة النرويجية في تلك الأثناء.
وفي ذلك الوقت، اعتبر الاتفاق بمثابة الحل الأمثل، هكذا قيل، للمشكلة الفلسطينية التي كانت تطارد منطقة الشرق الأوسط وتولد الكثير من المشكلات، وأعمال العنف، والكثير من الحروب على مدى عقود. وكانت حالة الإثارة التي خلقها ذلك الاتفاق عميقة لدرجة أنه بعد مرور أسابيع عدة عليه أسفر عن منح جائزة نوبل للسلام للثلاثي السياسي الذي «دبره» في المقام الأول: الزعيمان الإسرائيليان إسحق رابين وشمعون بيريس، وزعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات.
ومنذ البداية، كانت الطبيعة الحقيقية لهذا الاتفاق إما سرية بصفة جزئية أو مختلقة بما يفوق حدود الحوار الدبلوماسي المعني. وزعم الجانب الفلسطيني، ومن يؤيده في الغرب، أن «أوسلو»، كما بات معروفاً عن ذلك الاتفاق في الأوساط الإعلامية اختصاراً، هو بمثابة الخطوة الأولى على مسار إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. ولقد تخيروا تجاهل تصريحات إسحق رابين المتكررة بشأن الكيان الفلسطيني الأدنى من مستوى الدولة القومية الذي سوف يشرف بصورة مستقلة على إدارة حياة المواطنين الفلسطينيين الخاضعين لسلطانه.
وحتى شمعون بيريس نفسه، الذي حاد تفكيره السياسي عن الرزانة والمنطق معتبراً أنه يمكنه، بمعاونة ياسر عرفات، خلق «الشرق الأوسط الجديد» المفعم بالسلام والازدهار والرخاء، في نسخة جديدة وشديدة التضليل من أطروحة تيودور هرتزل المعنونة «الدولة القديمة الجديدة»، لم ينبس ببنت شفة حول حل الدولتين المتجاورتين، وإنما استبعد تماماً فكرة الدولة الفلسطينية الخالصة؛ وبدلاً منها، روّج لفكرة الدولة الأردنية - الفلسطينية، تلك الفكرة التي حاول جاهداً تسويقها إلى الأميركيين والمصريين في تلك الأثناء من دون نجاح يُذكر.
كما كان هناك خداع واضح على الجانب الآخر من الطيف.
ففي مؤتمر صحافي عُقد في أوائل عام 1988، كان ياسر عرفات قد تعهد بالاعتراف بحق إسرائيل في الوجود كدولة. وبعد انقضاء «أوسلو»، ورغم كل شيء، لم يتخذ من خطوات تُذكر لترجمة هذا الوعد إلى واقع سياسي ملموس. وبالنسبة لأولئك الذين قاموا بزيارته مهنئين في أعقاب توليه منصب رئيس السلطة الفلسطينية، عاود عرفات العزف على نغماته القديمة بالدولة الفلسطينية التي تمتد «من النهر إلى البحر».
وأعرب عرفات عن رأيه في «أوسلو» بمنتهى الوضوح؛ إذ وصف العملية بأنها مرحلة عابرة في حملة طويلة الأمد تهدف إلى القضاء على إسرائيل. ومع تزايد الضغوط عليه، كان يدفع بأنه اضطر إلى قبول قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 الصادر عن منظمة الأمم المتحدة الذي يوصي بإجراء محادثات السلام بين إسرائيل والدول العربية المجاورة بغية تسوية النزاعات الإقليمية وإحلال السلام.
وفي الوقت الذي أميط فيه اللثام عن اتفاق أوسلو تساءل البعض عن الأسباب الخفية وراء إبرامه في المقام الأول. وكان السبب الأول الذي جال بالخاطر يقول إن عملية «أوسلو» كانت مصممة بالأساس لحفظ ماء وجه ياسر عرفات وإنقاذه من «هوة» فقدان القيمة والأهمية. فلقد فقد عرفات قدراً هائلاً من المصداقية لدى البلدان العربية والإسلامية أول الأمر حال انحيازه الغريب إلى ملالي طهران في ثورتهم عام 1979، ثم مرة أخرى عبر تأييده غزو الكويت على أيدي صدام حسين وقواته العسكرية. وعانى ياسر عرفات من معضلات مالية جمة مع تجفف منابع الأموال التي كان يتلقاها من نظام صدام حسين جراء العقوبات الدولية المفروضة على بغداد اعتباراً من عام 1991. ومن دون الدعم الدبلوماسي وفي غياب التدفقات المالية، لم يكن عرفات يمثل أكثر من شخصية باهتة التأثير وضعيفة النفوذ يقبع ساكناً في تونس.
ولقد تسارعت خطواته المنزلقة إلى القاع السياسي مع انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في عام 1991، وفي ذلك المؤتمر تقدم الفلسطينيون الحقيقيون، أي أولئك الذين يعيشون في الضفة الغربية وقطاع غزة، بقيادة بديلة تمثلهم سرعان ما حازت الاحترام والتقدير عبر مختلف أرجاء العالم.
وعلى العكس من ياسر عرفات، الذي اشتهر دولياً بميله للممارسات العنيفة، بما في ذلك محاولات إغراق لبنان في آتون الحرب الأهلية، ناهيكم عن ذكر أعمال الإرهاب التي تفوق الحصر فيما يربو على 12 دولة، كان الوفد الفلسطيني في مؤتمر مدريد للسلام قد أثبت قدراً معتبراً ومحترماً من التعقل والتعاطف؛ إذ بدا كل من حيدر عبد الشافي، وحنان عشراوي، وفيصل الحسيني، الذين ظلوا بالداخل، كأناس يرغبون حقاً في السلام إثر المعاناة والمآسي التي جربوها وخبروها بأنفسهم وفي حياتهم الشخصية.
ومن ثم، يكون أحد الأهداف غير المعلنة لاتفاق «أوسلو» هو الحط من شأن «شخصيات» مدريد الجديدة، ثم إعادة فرض شخصية عرفات على واجهة الأحداث لتتصدر ملف «القضية الفلسطينية» من جديد.
ومن بين الأسباب الأخرى غير المعلنة لتلك العملية إخفاق «جزء» من القيادة الإسرائيلية في اعتبار إمكانات السلام مع سوريا في الوقت الذي قذفت فيه الولايات المتحدة بصدام حسين وقواته خارج الكويت تماماً، ورسخت أركان وجودها في المنطقة حاكماً يقضي في الأمور والشؤون كافة.
وفي تلك الأثناء، أرهف بعضنا أسماعه لأصداء الإشارات الخفية التي بعث بها الرئيس السوري حافظ الأسد لإسرائيل بشأن وعود السلام، ليس فقط مع سوريا، وإنما مع لبنان الذي كان يرزح تحت نير احتلاله في ذلك الوقت. وهناك أدلة تفيد بأن إسحق رابين كان يميل الشيء القليل إلى المشاعر السورية. ومع ذلك، يبدو أن بعضهم داخل القيادة الإسرائيلية قد أحسوا بأن التنازل ولو عن نزر يسير من مرتفعات الجولان المحتلة كان أمراً محفوفاً بمخاطر جمة في الوقت نفسه الذي يُمنح فيه لعرفات موطئ قدم داخل الضفة الغربية كي يستحيل سجناً يصعب الفكاك منه بمرور الوقت.
وعند تخير الطريق إلى أوسلو تجاهلت القيادة الإسرائيلية أحد أهم الدروس المستفادة من تجارب ديفيد بن غوريون، الأب المؤسس للدولة العبرية، الذي شدد على أن حل «المشكلة الفلسطينية» يجب وأن يبدأ أولاً بالسلام مع الجيران العرب؛ لأنه في غياب هذا السلام، كما قال بن غوريون، يمكن لأي دولة عربية أن تتلاعب بالفلسطينيين لتحقيق غاياتها الخاصة.
ولم تتصور عملية أوسلو مجرد إقامة الدولة الفلسطينية فحسب، وإنما قد أرجأت الإعلان عنها لأجل غير مسمى كذلك. والواقع أن العملية قد خلقت وضعاً راهناً جديداً في المنطقة شعر فيه أصحاب المال والسلاح من الجانب الفلسطيني بالارتياح في الوقت الذي تسنى فيه للجانب الإسرائيلي تفادي مجرد التفكير وتصور آفاق بعيدة المدى لوضع غير مستقر على الإطلاق.
ومن المفارقات الساخرة، أن فكرة الدولتين قد تحولت إلى فكرة أرهقها الابتذال والتكرار، ولا سيما بالنسبة لأي شخص تنفد لديه الأفكار بشأن كيفية التعامل مع ما وصفه توني بلير ذات مرة بقوله «أصعب مشكلة في العالم». ومنذ أوسلو، مع استثناء إسحق رابين، كان جميع رؤساء الوزراء الإسرائيليين، ونعني شمعون بيريس، وإيهود باراك، وآرييل شارون، وإيهود أولمرت، وبنيامين نتنياهو، قد أيدوا صيغة «الدولتين». غير أن الجانب الرسمي الفلسطيني كان قد اتخذ موقفاً مفعماً بالغموض بشأن المسألة نفسها، وفيما يتعلق بحركة «حماس»، كان الموقف عدائياً للفكرة ذاتها. والمرة الوحيدة التي اقتربت السلطة الفلسطينية الرسمية فيها من تبني صيغة «الدولتين» أساساً حقيقياً لاستراتيجيتها السياسية حيال إسرائيل كانت إبان تولي سلام فياض رئاستها.
حتى وإن لم يكن أحد يعتقد أن عملية أوسلو قد ولدت مجهضة في مهدها، فيجب أن يكون واضحاً الآن أن تلك الخطة أو العملية أو الاتفاق قد صارت في عداد الأموات.
وبعد مرور ربع قرن من الزمان، صار لدينا وضع راهن ومستمر، وإن كان يبعد كل البعد عن المثالية المنشودة، إلا أنه يحمل قدراً معتبراً من الاستقرار، وبعضاً من وميض الأمل في صفقة جديدة تعد لها العدة الولايات المتحدة. وفي كلتا الحالتين، وعلى النقيض تماماً من التصورات الذائعة في كل مكان، فإن الشعب الفلسطيني، الضعيف والمنهك والمنقسم على نفسه بين ما «هنا» وما «هناك»، هو مَـن تقع على عاتقه مسؤولية الاختيار الأخير.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع