تبدأ المرحلة الثانية من العقوبات الأميركية على إيران في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. وشملت المرحلة الأولى من العقوبات إنذاراً أميركياً للشركات الدولية المستثمرة في الصناعات المحلية، أما المرحلة الثانية والأهم اقتصادياً لكل من إيران والاقتصاد الدولي، فموجهة إلى الشركات المستوردة النفط الإيراني أو المستثمرة في تطوير الصناعة النفطية.
وبعد القرار الأحادي للولايات المتحدة في الانسحاب من الاتفاق النووي الذي وقعته ايران مع الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا، تباينت مواقف الدول الموقّعة، وتعارضت المواقف من انسحاب واشنطن. فبعد الاعتراضات الدولية على سياسة الرئيس دونالد ترامب، ومن ضمنها أسلوب «التغريدات» غير الدبلوماسية، تشكّلت ردود فعل متعددة حول سُبل التعامل مع نهج البيت الأبيض.
وطالب ترامب عدم تحديد أي مهلة زمنية للرقابة على البرنامج النووي الإيراني، وشمول الاتفاق قيوداً على برنامج تطوير الصواريخ الباليستية الايرانية، إضافة إلى وضع حد للتوسع والهيمنة الإيرانية الإقليمية ووقف نشاطاتها الإرهابية. ورفضت السلطات الإيرانية حتى الآن الاقتراحات الأميركية بتغيير الاتفاق، ولكن لم تصدر عنها ردود واضحة حول ما هو المطلوب في ظل الموقف الأميركي.
وتزامن الإعلان عن حصار نفطي جديد على إيران مع نشوب حركات احتجاجية داخلية وتدهور قيمة العملة الإيرانية أمام الدولار، لتسجل مستويات قياسية متدنية، في حين قرّرت شركة «كوزمو أويل» اليابانية عدم تحميل النفط الإيراني ابتداءً من تشرين الأول (أكتوبر) المقبل.
وتفاقم الوضع الاقتصادي الإيراني خلال فصل الصيف، إذ أعرب متظاهرون عن استهجانهم إنفاق طهران ملايين الدولارات لدعم مناصريها في بعض الدول العربية بدلاً من تنمية إيران. وبثت وكالة أنباء «فارس» خبراً في 3 الجاري جاء فيه أن المدير العام لأسواق طهران عبد الحسين رحيمي قرر تقنين بيع اللحوم في العاصمة بسبب «شح السلع»، في حين تضاعفت أسعار اللحوم خلال سنة.
وبدأت تنمو وتتوسع حركة عالمية داعية إلى الاستغناء عن استعمال الدولار في بعض التعاملات التجارية الدولية. في المقابل، برزت تصريحات من جماعات اليمين الجديد والأصوليين المسيحيين الأميركيين تدعو إلى عدم الاكتفاء بالحصار النفطي، بل تبني سياسة إزاحة النظام السياسي الإيراني واستبداله بنظام جديد. وحتى قبل بدء الحصار النفطي، برزت مواقف مختلفة ومتعددة، وبدأت تظهر إلى العلن خلافات داخلية في طهران، إذ سحب النواب المتشددون في المجلس الثقة من وزير الشؤون الاقتصادية والمالية مسعود كرباسيان، وحمّلوه مسؤولية عدم ردع الانهيار الاقتصادي.
والأمر الأكثر دهشة ضمن مسلسل ردود الفعل المتناقضة خلال الأشهر الماضية، هو استقرار أسعار النفط العالمية ضمن نطاق ضيق جداً يتراوح بين 70 و75 دولاراً لبرميل نفط «برنت». وعلى رغم تصريحات المسؤولين الإيرانيين وقادة الحرس الثوري المتككرة باستعدادهم لقطع الملاحة عبر مضيق هرمز، فمن الواضح أن الأسواق التي ترصد الانعكاسات الجيوسياسية لهذه النزاعات، تتحرّك وتدخل في المضاربات اليومية في أجواء كهذه، بحيث ترفع الأسعار إلى مستويات عالية جداً اذا توجّست إمكان انقطاع امدادات نفطية مهمة.
وتمادت الولايات المتحدة في العقود الأخيرة في فرض العقوبات الاقتصادية والحصار النفطي على الدول «المارقة»، فارتفعت هذه العقوبات لتشمل نحو بليوني نسمة تقريباً، وبلغ إجمالي الناتج المحلي للدول المستهدفة أكثر من 15 تريليون دولار. ومن ضمن الدول التي شملتها أو التي لا تزال تشملها العقوبات الأميركية أو الأممية (مجلس الأمن)، روسيا، وايران، وفنزويلا، وكوبا، والسودان، وليبيا، وزيمبابوي، وماينمار، وجمهورية الكونغو الديموقراطية، وكوريا الشمالية، والعراق، وتركيا، وباكستان والصين.
واختلفت أسباب العقوبات بين خلافات حول مصالح سياسية بحتة، واستعمالها جزءاً من الصراع السياسي/العسكري مع الدول المعنية، وعقوبات بسبب انتهاكات حقوق الانسان وارتكاب جرائم ضد البشرية. أما بالنسبة للعشرات من الشخصيات على القائمة السوداء الأميركية، فالأسباب تشمل تهريب المخدرات، والإرهاب، وتبييض الأموال، وتجارة الأسلحة لمصلحة دول «مارقة».
وأدى الاستعمال المتزايد لهذا العدد من السكان والدول الكبرى، تحديداً الصين وروسيا، إلى مبادرة بعضها لاعتماد نظام مالي جديد للتجارة الخارجية لا يعتمد على الدولار، بل على العملة المحلية. ولا يزال النظام المالي الجديد في بداياته ويُستعمل فقط على نطاق ضيق، لكن هناك محاولات لدول «البريكس»، التي تضم روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، لتأسيس نظام للتعاملات المالية الدولية مستقل عن النظام الحالي «سويفت».
ويؤدي استمرار الحصار على الدول الإقليمية والكبرى إلى تبني وسائل تعامل مالية جديدة في مجال النفط. وخير مثال موقف الصين من العقوبات الإيرانية، إذ قررت تأسيس سوق مستقبلي في شنغهاي لتجارة النفط يستخدم «اليوان» بدلاً من الدولار. وبهذا، ستحاول الشركات الصينية تفادي العقوبات الأميركية، كما أن السوق ستتعامل في بادئ الأمر مع المشتريات الإيرانية وتتفادى الدول الأخرى. ولكن تبقى تجربة الصين مهمة في حال توسعها مستقبلاً، خصوصاً وأنها من أكبر الدول استيراداً واستهلاكاً للنفط. وتوجد أمثلة كثيرة أخرى لمحاولات استعمال المقايضة (الهند وتركيا)، إضافة إلى اعتماد العملات المحلية لإستيراد النفط من ايران.
وتصدر إيران 2.4 مليون برميل يومياً، بينما أدت العقوبات الدولية المفروضة في عهد الرئيس السابق محمد أحمدي نجاد إلى تقليص الصادرات إلى 900 ألف برميل يومياً. وبعد عقود من العقوبات، أصبح لدى ايران خبرة في تفادي جزء من الحصار، ولكن من دون شك ستشكل العقوبات ضربة في صميم النظام الاقتصادي للبلاد، الأمبر الذي عبّرت عنه التظاهرات التي عمت البلاد، وليس طهران فقط.
والسؤال الأبرز ما هو ردّ فعل إيران على العقوبات؟ هل ستقبل بالتفاوض وتعديل الاتفاق النووي؟ أم ستلجأ إلى وسائل عسكرية في إجابتها بتقييد حرية الملاحة في مضيق باب المندب، أو إشعال الجبهات العربية المتعددة الواقعة تحت نفوذها؟ وماذا سيكون ردّ الفعل العسكري لواشنطن وحلفائها؟ فعلى ضوء هذه القرارات، وطبيعة الردود عليها، ستأخذ أسعار النفط منحى جديداً سيعكس الأعمال العسكرية، بدلاً من التصريحات الكلامية.
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع