عمل فاروق القاسم بعد دراسته الجيولوجيا في بريطانيا في شركة نفط الجنوب في البصرة، ثم هاجر إلى النرويج لأسباب عائلية، حيث تقلد مهام عدة في المؤسسات النفطية النرويجية. وقد كرّمته النرويج لخدماته، وعيّنته بعد تقاعده في الوفود النرويجية لمساعدة دول العالم الثالث الحديثة العهد في الصناعة البترولية، منها لبنان، حيث ساهم القاسم في صياغة قانون النفط اللبناني، بالإضافة إلى تدريب مجموعات من المتخصصين والمتخصصات اللبنانيين في النرويج حول مختلف معالم الصناعة البترولية.
تأسست الصناعة النفطية في أواخر القرن التاسع عشر، وتوسعت ابتداءً من أوائل القرن العشرين بسبب اختراع الكهرباء وسيارة محرك الاحتراق الداخلي، مثل سيارة «ت - فورد»، ومن ثم اندلاع الحرب العالمية الأولى، حيث قرر وزير البحرية البريطانية عندئذ ونستون تشرشل استعمال الوقود البترولي بدلاً من الفحم الحجري في الأسطول البريطاني.
مرّت الصناعة بمرحلتين مهمتين. الأولى خلال النصف الأول للقرن العشرين، حيث نفوذ الدول الكبرى الاستعمارية في الدفاع عن مصالح شركاتها من خلال نظام الامتيازات الذي ألحق الغبن بالدول المنتجة، ومن ثم منذ عقد السبعينات للقرن العشرين، حيث استطاعت منظمة «أوبك» تغيير الأطر الأساسية للصناعة النفطية الدولية، والتخلي تدريجياً عن نظام الامتيازات، وبدأ نظام المشاركة للدول المنتجة مع الشركات الدولية، كما بدأت شركات النفط الوطنية تلعب أدواراً مهمة من الاستكشاف إلى التسويق.
انصبّ الاهتمام لاحقاً منذ النصف الثاني للقرن العشرين بمدى الرفاه الاجتماعي (الضمان الصحي، والتقاعدي، والشيخوخة، والاهتمام بتعليم وصحة المواطنين، وتشييد البنى التحتية) الذي حققه الريع النفطي لمواطني بعض الدول النفطية، على عكس دول نفطية أخرى أخفقت في هذا النهج. وانصبّ الاهتمام لاحقاً بمدى نجاح الدولة الريعية في تأسيس اقتصادات مرادفة للنفط لتفادي تقلبات الأسعار والإنتاج على الاقتصاد الوطني، وأضيف مؤخراً، مدى نجاح الدولة النفطية في إنشاء طاقات بديلة تحسباً لعصر تصفير الانبعاثات.
اهتمت وركزت المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام بهذه التطورات والفروقات في الأداء بين الدول النفطية. من جانبها، عدّت الدراسة التي أعدّها فاروق القاسم النرويج من الدول الناجحة في استغلال ثروتها النفطية، في حين عدّت الدراسة كلاً من نيجيريا وأنغولا من الدول التي أخفقت في الاستغلال الجيد للثروة النفطية. وعدّ الفساد السبب الرئيس وراء الإخفاق، وشيوع ما أخذ يعرف بـ«لعنة النفط».
يعدّ النفط في معظم دول العالم «ثروة للشعب». لكن نظراً لنظام الامتيازات السابق؛ ونظراً لطبيعة الأنظمة السياسية الرأسمالية لمعظم الدول الصناعية الغربية، سُمح للقطاع الخاص بتطوير الصناعة البترولية؛ ونظراً لتخلف بعض الدول النفطية في العالم الثالث عن النجاح بتحقيق مجتمع «الرفاه الاجتماعي»، ونتيجة لتراكم ملايين الدولارات لدى بعض المتنفذين في هذه الدول بسرعة، اهتمت المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام العالمية بتغطية الفساد.
يعدّ البحث أن أحد أسباب ضعف تنفيذ الأنظمة المرعية هو عدم توافر العدد الوافي من المتخصصين في المؤسسات التشريعية، أو منحهم الصلاحيات والنفوذ اللازمين لضمان الشفافية والمحاسبة.
كما تعدّ الدراسة أن للرشى مضار تراكمية للصناعة النفطية أكثر مما تشكله من «فائدة» للفاسدين والمفسدين. إذ تكمن خطورة الرشى في مدى التخريب الذي تلحقه بالصناعة النفطية نفسها. فالانحراف الفردي الفاسد عند تراكمه وتكراره، يعدّ جزءاً من مسلسل لتوجيه ضربات قد تكون قاضية للصناعة النفطية، عاجلاً أم آجلاً، ناهيك عن الخسائر التي تلحقها بـ«الرفاه الاجتماعية». كما تؤدي الرشى إلى الانحراف عن القوانين المرعية وأهدافها المرسومة.
إن الرشى ما بين طرفين تقلص من إمكانية تحقيق الرفاه الاجتماعية للمواطنين. فالرشى ليست مُضرّة فقط للصناعة النفطية، بل لشعب الدولة المنتجة. فما الهدف من الإنتاج والتصدير، حيث استنزاف ثروة البلاد الطبيعية الناضبة، إلا لتحقيق الرفاه الاجتماعية للسكان، ولتأسيس قطاعات اقتصادية منتجة مستقبلية للبلاد، والمساهمة في تزويد إمدادات طاقوية للأسواق العالمية.
لا تتوفر إحصاءات دقيقة ووافية عن مجمل قيمة الرشى عالمياً؛ وذلك نظراً للطبيعة السرية للرشى، ولضخامة الصناعة النفطية وكثرة وصعوبة الوصول إلى المعلومات في الصناعة وتعقيدات اتفاقاتها وقوانينها، هذا بالإضافة إلى نفوذ بعض المسؤولين الكبار المحليين والدور الجيو - سياسي لدول بعض الشركات.
ورغم انكشاف بعض الفضائح عبر المحاكم والمؤسسات الحكومية المعنية ووسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية، تبقى معظم الرشى سرية أو غامضة. وقد ذكرت دراسة الدكتور القاسم الكثير من الأمثلة حول آثار مساوئ الفساد على الصناعة النفطية، منها على سبيل المثال:
- تقرير دقيق ومفصل لمجلس الشيوخ الأميركي عام 2004 عن شركات نفط أميركية حققت ملايين الدولارات عن طريق «دفعات غريبة» لمسؤولين كازاخستانيين، الذين حوّلوا هذه الدفعات لاحقاً لحساباتهم الخاصة في مصارف مختلفة. وقد حصلت الشركات المعنية على عقود في الصناعة النفطية الكازاخستانية إثر هذه الدفعات.
- أفاد تقرير صدر أيضاً عن مجلس الشيوخ الأميركي عام 2004 عن معلومات دقيقة حول حصول شركات أميركية على ملايين الدولارات بطريقة «مشبوهة» إثر دفعات مالية قدمتها لأقرباء وأصدقاء رئيس غينيا الاستوائية تيودوو أوبانغ. واستنتج التقرير أنه قد ساهمت هذه الدفعات في استشراء الفساد في تلك الدولة.