أفضل التوقيتات للدول لكى تفكر فى المستقبل وتسعى إليه، هو توقيت ما بعد الأزمة، حيث تعيد النظر فى جميع سياساتها وخططها الاستراتيجية لإدارة ملف الاقتصاد الذى يعد «القلب» المعرض دائماً للمخاطر، فيجب دائماً مراقبة شرايينه وضخ دماء جديدة فيه باستمرار!.
فالتجربة المصرية للإصلاح الاقتصادى بدأت لكنها لم تنتهِ، فهى ليست برنامجاً للتمويل، ولا تشريعات ولا قواعد منظمة فقط، بل إنها طريقة تفكير ومنظومة متكاملة يجب أن تكون «خارج السياق» تعمل على اقتناص الفرص وتتوقع المستقبل من الآن وتعمل على تسخير كل السياسات الاقتصادية والمالية وأيضاً الإعلامية لتحقيق الاستفادة لجميع أفراد المجتمع.
وهو ما يجب أن يؤمن به ويتعلمه القائمون على إدارة هذا الملف الحيوى فى ظل اقتصاد ينمو يوماً بعد الآخر وحراك اقتصادى فعال، وتشابكات مالية تزداد باتساع حجم السوق، لا بد أن تتطور معه فلسفة الإدارة المالية فى الدولة، لتتماشى مع هذه المتغيرات المتسارعة، التى تحتاج كل مرحلة فيها لتعامل معين، وأهداف معينة، يتم تنفيذها من خلال إدارة مرنة للغاية، تعلم إلى أين تتجه، وكيف ستصل؟
الأيام الماضية شهدت مجموعة من «الأحداث الاقتصادية المهمة» التى لم ألاحظ معها تخطيطاً مشتركاً أو تحركاً متناغماً على مستوى القائمين على إدارة ملف السياسات المالية والنقدية، واكتفت أن تكون «عناوين للأخبار».
كخطوة البنك المركزى المصرى بتخفيض أسعار الفائدة بـ150 نقطة أساس على الإيداع والاقتراض، وانتهاء أجل شهادات استثمار قناة السويس فى 4 سبتمبر المقبل بقيمة تبلغ 64 مليار جنيه، وذلك بعد مرور 5 سنوات على قيام الشعب المصرى بالاكتتاب فى أحد أكبر المشروعات القومية المصرية.
وهى أحداث استراتيجية كانت تقتضى تعاملاً مختلفاً وإيجابياً لإثبات ما يلزم فى «التوقيت المناسب»!.
فخطوة البنك المركزى المصرى بتخفيض أسعار الفائدة بـ150 نقطة أساس على الإيداع والاقتراض، وهى خطوة كانت متوقعة من كل الاقتصاديين، ولها تأثير واضح وصريح على جميع المؤشرات الكلية ومن بينها الطلب الكلى والتضخم والاستثمار وسوق المال والنمو الاقتصادى وغيرها، كانت تتطلب من جميع الجهات المعنية أن تجهز خطتها للتعامل مع هذا المتغير، لتعظيم مكاسبه، وتخفيض الخسائر المتوقعة إلى أدنى درجة، فكان لا بد أن يضع القائمون على ملفات الاستثمار خطة لتعظيم عوائد هذا القرار على قرارات الاستثمار فى المجالات المختلفة وتشجيع المستثمرين على استغلال هذه الخطوة فى زيادة استثماراتهم أو إنشاء استثمارات جديدة، ترتكز إلى انخفاض تكلفة التمويل.
وكان لزاماً على القائمين على ملف التجارة الداخلية أن يتنبهوا أن لهذا القرار تأثيراً واضحاً وصريحاً على مؤشرات الطلب الكلى خاصة فى القطاعات أو السلع التى تمولها قروض التجزئة المصرفية، وخاصة السيارات والعقارات والسلع المعمرة، وغيرها من المنتجات التى من الممكن أن تؤدى لارتفاعات فى الأسعار حال عدم كفاية المعروض المتوفر للطفرة المتوقعة فى الطلب.
كما أن القائمين على ملف البورصة كان لزاماً عليهم أن يتنبهوا لهذه الخطوة ويشجعوا الأفراد على انتهاج ثقافة الاستثمار فى سوق المال، كبديل مناسب للأموال التى يمكن أن تخرج من الجهاز المصرفى بحثاً عن عائد استثمارى أكبر.
.. ومسألة فك شهادات قناة السويس التى تبلغ قيمتها 64 مليار جنيه فى مطلع سبتمبر المقبل، بعد انتهاء آجالها، ليست بالمسألة الهينة ولا الفرصة التى يجب تركها فهذه المبالغ الضخمة، لا بد أن يتم التحوط بشكل كبير ضد جميع المخاطر التى يمكن أن تحملها، متمثلة فى صدمة الطلب فى قطاع أو قطاعات مختلفة أو خروجها لأدوات استثمارية جديدة كالذهب والدولار اللذين يمثلان أهمية كبيرة فى خريطة الاقتصاد القومى.
وهنا كان ينبغى أن نضع مجموعة من البدائل للتعامل مع هذه المبالغ، بحيث تتضمن تخطيط توزيع الإنفاق الاستثمارى والاستهلاكى لهذه المبالغ من خلال التأثير فى قرارات أصحابها، بحيث يمكن توجيه جزء منها لدعم حركة التداول فى البورصة، وذلك عبر طرح عدد من الشركات الحكومية للاكتتاب العام فى البورصة فى نفس التوقيت خاصة أن هناك برنامج طروحات حكومية ينفذ حالياً وليس هناك مبرر لتأجيله، وجزء آخر للاستثمار فى أوعية ادخارية جديدة بداخل الجهاز المصرفى، وجزء ثالث لتمويل مشروعات جديدة قد تنتوى الدولة تنفيذها.
كما أن شهادات قناة السويس لها بعد «اجتماعى وسياسى» كان يجب مراعاته والاستفادة منه، فهى من الخطوات الرئيسية التى اعتمدت عليها القيادة السياسية فى تنفيذ مشروعها الاقتصادى الطموح على مستوى الدولة، عبر «حشد إيجابى» كان يجب استغلاله واستمراره كأحد مقوماتنا الرئيسية لاستكمال نجاح تجربتنا الاقتصادية.
كما كان ينبغى على البنوك الأربعة التى شاركت فى إصدار هذه الشهادات أن تتحوط ضد مخاطر خروج هذه المبالغ، بحيث تضمن عدم تأثر مراكزها المالية أو مؤشرات العائد والربحية فيها من جراء خروج هذه المبالغ الضخمة، وأتوقع أن تكون هذه البنوك قد قامت بذلك بالفعل فى ضوء عملها فى منظومة منضبطة محكومة بسياسات لها أهداف واضحة.
ولا داعى للتخوف من خروج هذه المبالغ من القطاع المصرفى فمازالت نسبة توظيف الودائع فى منح القروض لا تتخطى 49% وتمتلك البنوك فوائض مالية ضخمة يمكن توجيهها فى تمويل القروض المختلفة أو أدوات الاستثمار الأخرى، حيث سجل إجمالى ودائع القطاع 3.9 تريليون جنيه بنهاية مارس 2019، فيما بلغ إجمالى محفظة القروض 1.9 تريليون جنيه خلال نفس الفترة، فى حين يمتلك القطاع سيولة مالية يمكن توجيه نسبة كبيرة منها للإقراض بنحو 1.431 تريليون جنيه وفقاً لمؤشرات الربع الأول من 2019.
مسألة الإدارة المالية فى المجتمعات الاقتصادية المختلفة، مسألة شديدة الحساسية، لارتباطها بمختلف المؤشرات الاقتصادية التى تضم الاستثمار والطلب الكلى والنمو الاقتصادى والتشغيل والبطالة والشمول المالى وغيرها.
وبالتالى لا ينفع معها «سياسة رد الفعل»، فهى متعلقة بمستقبل شعوب، وخطوة حقيقية فى الاتجاه الصحيح.
فمنظومة الإدارة المالية فى الدولة لا بد أن يكون لها «رأس» يعلم جميع الأبعاد الكلية، ويترجم كل القرارات لتأثيرات متوقعة على الأهداف الكلية والقومية للدولة والاقتصاد، وأن يكون لها أطراف تعمل بشكل متناسق ومتكامل، على تعظيم المكاسب وتدنية الخسائر، والتحوط ضد المخاطر، وتنفيذ الأهداف الخاصة دون التأثير على أهداف باقى الأطراف أو الأهداف الكلية للدولة.
وتلك هى الفلسفة التى لا بد أن نعمل وفقاً لها، وأن نعيد النظر فى أى أخطاء وقعنا فيها فى الماضى وأن نعيد النظر فى أدوات التنسيق بين السياسات النقدية والمالية والاستثمارية والتجارية بصفة دائمة، لضمان وجود منظومة اقتصادية متكاملة تعمل على زيادة معدل نمو الدخل القومى والتغلب على المشاكل التى تواجهها الدولة، مما يترتب عليه ارتفاع فى مستوى معيشة أفراد المجتمع وضمانة فى طريقها لضمان استدامة التنمية.