«مِـنْ أَىِّ عَهـدٍ فـى القُـرَى تتَـدَفَّقُ؟ وبـأَىِّ كَـفٍّ فـى المـدائن تُغْـدِقُ؟ ومـن السـماءِ نـزلتَ أَم فُجِّـرتَ من.. علْيـا الجِنــان جَـداوِلاً تـتَرقرقُ؟».. تلك هى الكلمات الرائعة التى كتبها أمير الشعراء أحمد شوقى عن النيل وتغنّت بها سيدة الغناء العربى كوكب الشرق أم كلثوم.
رحل أحمد شوقى منذ 87 عاماً فى 14 أكتوبر 1932، وتحين ذكرى رحيله غداً، وترك لنا تلك الكلمات الرائعة التى تعبّر بوضوح عن حب وتقدير وتعظيم المصريين للنيل عبر مر العصور.
أردتُ أن أذكر الجميع بهذه الأبيات، وسط الاحتقان الشديد والتخوف الكبير الذى يشعر به المصريون نتيجة تعثّر المفاوضات بين مصر وإثيوبيا حول برنامج تخزين المياه فى سد النهضة، وتأثير ذلك على مصر.
«مياه النيل بالنسبة لمصر مسألة حياة وقضية وجود».. هكذا خاطب الرئيس عبدالفتاح السيسى العالم حول قضية مياه النيل وتأثير سد النهضة، ليُنهى أى أمل لدى الإثيوبيين فى إمكانية قبول مصر، فرض الأمر الواقع فى مسألة تخزين المياه بالسد.
وأثق تمام الثقة أن الدولة المصرية بكامل مؤسساتها تمتلك الأدوات المناسبة والكافية للحفاظ على الحقوق التاريخية لمصر فى مياه النيل، كما أثق بأن هذا الشعب لن يعانى نقص المياه، تحت إدارة القيادة السياسية الحالية، وذلك لعاملين رئيسيين، الأول؛ يرتبط بقوة الدولة المصرية خلال الفترة الحالية وامتلاكها جميع الأدوات التى تكفل حماية جميع حقوقها فى شتى المجالات.
والثانى؛ لأن الدولة المصرية تعمل حالياً بأسلوب التخطيط بعيد المدى، والمبادرة، بمعنى أن النظام المصرى الحالى لا يترك المشكلات حتى تقع، ثم يفكر فى مواجهتها، لكن دائماً ما نجده سبّاقاً لتوقع المشكلات المختلفة والاستعداد لمواجهتها، ودائماً ما نجد لديه بدائل مختلفة للحلول، ودائماً ما نشعر بالأمان خلفه فى إدارة كل الملفات المصيرية التى تتعلق بالأمن القومى المصرى.
والدليل على ذلك بدء مصر استراتيجية قومية جديدة فى إدارة ملف المياه منذ عدة سنوات، تعتمد على 3 محاور رئيسية:
المحور الأول يتعلق بإعادة تخطيط استخدام مياه النيل، لترشيد الاستهلاك، وما يتضمّنه ذلك من إعادة تخطيط الزراعة وتحديد خريطة المحاصيل الأكفأ، وتطوير أساليب الرى، وتطوير أساليب الاستهلاك المنزلى والاستثمارى للمياه، وذلك لتقليل معدلات الفاقد فى المياه، الذى وصل إلى 32% بالنسبة لمياه الشرب فقط، وترتفع النسبة إلى أعلى من ذلك فى المياه الموجّهة للرى.
المحور الثانى يتعلق بالتوسّع فى محطات معالجة المياه، حيث تعالج هذه المحطات نحو 12 مليون متر مكعب من المياه، وهذا الرقم مرشح للزيادة بشكل كبير خلال الفترة المقبلة، فى ظل وجود مليارات الوحدات من المياه، التى لا يتم إعادة معالجتها.
المحور الثالث يتعلق بتوجّه الدولة نحو تنفيذ استراتيجية تحلية مياه البحر، وإتاحتها للاستهلاك المنزلى والزراعى والاستثمارى، وأطلقت الدولة فى هذا المحور أكثر من مشروع ضخم، يتصدّرها مشروع محطة تحلية مياه البحر بمدينة شرق بورسعيد الجديدة الذى يتم تنفيذه بتمويلات عربية وينتج 150 ألف متر مكعب من المياه يومياً فى مرحلته الأولى فقط، بالإضافة إلى محطات التحلية التى يتم تنفيذها فى محافظة جنوب سيناء.
ووفق هذه الاستراتيجية بمحاورها الثلاثة، فإن الدولة تسعى جاهدة لتأمين احتياجاتها من المياه خلال الفترة المقبلة، لكن يبقى التحدى فى التطور المستمر فى أعداد السكان فى مصر، حيث من المنتظر أن يصل عدد سكان مصر إلى 115 مليوناً فى عام 2025، وهذا الرقم الضخم تترتب عليه احتياجات إضافية من المياه، فى حين تبلغ احتياجات المياه فى مصر حالياً أكثر من 80 مليار متر مكعب سنوياً، لا يتم توفيرها فى ضوء المصادر الحالية من المياه، بمعنى أننا نعانى عجزاً مائياً خلال الفترة الحالية وسيتفاقم هذا العجز مستقبلاً لو لم يتم التوسّع فى محطات التحلية ومحطات المعالجة وتطوير رؤية الدولة فى إعادة تخطيط استخدام المياه، فضلاً عن ضرورة سعى الحكومة لتخفيض الزيادات السكانية الكبيرة المتوقعة فى المستقبل.
أما بالنسبة لقضية سد النهضة، ففى تقديرى أن الدولة المصرية ستتعامل بشكل منطقى ومتدرج معها، كما أن كل الخيارات مفتوحة، للحفاظ على الأمن القومى المصرى، ابتداءً من المفاوضات، وصولاً إلى التصعيد بمختلف أشكاله، ولا يجوز لأى دولة انتقاد أى تصرّف لمصر فى هذه القضية، وسط التعنّت الإثيوبى الواضح، فتحرك مصر هنا يتم للحفاظ على حياة شعب، وليس لحماية تهديدات وهمية للحدود، كما يفعل النظام التركى حالياً!