مع انطلاق برنامج الإصلاح الاقتصادى فى مصر عام 2016، واتخاذ القرار الجرىء بتحرير أسعار الصرف، الذى ترتب عليه تراجع قيمة الجنيه بأكثر من 100%، بدأت الواردات فى التراجع، وسجلت نسبة تراجعها 24% فى أول 6 أشهر عقب القرار، وذلك فى انعكاس مباشر لارتفاع أسعار الواردات فى السوق المحلية، وتفضيل المستهلكين للمنتجات الوطنية.
وهنا اتّسعت فرص بيع المصانع المحلية، وتوقعنا طفرة صناعية مرتقبة مدعومة بتمكين المنتجات الوطنية فى السوق المحلية بعد ارتفاع أسعار الواردات، وتمكينها فى السوق العالمية بعد ارتفاع سعر الدولار.
وبالفعل تحسّنت الصادرات المصرية وارتفعت بنحو 14% فى أعقاب تحرير سعر الصرف، وزادت مبيعات الشركات الصناعية فى السوق المحلية بنحو 20%، وانخفض العجز فى الميزان التجارى بنحو 25%.
وبعد مرور عامين على قرار تحرير أسعار الصرف، وبدء خطة الإصلاح، عادت الواردات للارتفاع مرة أخرى، حيث سجلت زيادة بنحو 13% خلال الشهور الستة الماضية، وسجلت نسبة الزيادة ذروتها فى أكتوبر 2018 بنحو 21% وبفاتورة استيراد بلغت 7 مليارات دولار فى شهر واحد فقط!
ظاهرة «زيادة الواردات» من الممكن أن تكون «ظاهرة صحّية» وتفيد الاقتصاد، لكن بشرط أن تكون البنود السلعية التى ارتفعت عبارة عن «سلع استثمارية أو إنتاجية»، أى آلات ومعدات، ومواد خام ووسيطة، تستخدم فى الإنتاج، ففى هذه الحالة تكون الزيادة انعكاساً طبيعياً لتطور الصناعة المحلية.
لكن الواقع يشير إلى أمر مخالف تماماً، حيث اقتصرت الزيادة فى فاتورة الواردات على السلع الاستهلاكية، التى لا تتعلق بالعملية الإنتاجية، ويعنى هذا أننا نستورد، ونستنزف العملة الأجنبية، بغرض الاستهلاك.
حيث ارتفعت واردات السلع المعمّرة، مثل الأجهزة الكهربائية بنحو 63% فى أول 10 شهور من 2018، وزادت واردات المحمول 80%، وزادت واردات سيارات الركوب بـ69%، وزادت واردات التليفزيونات والشاشات بنحو 112%.
ويُعد هذا التطور بمثابة أمر خطير للغاية، له أكثر من مدلول، علينا الانتباه إليها.
الأول يتعلق بتراجع الصناعة المحلية، وعدم قدرتها على توفير الاحتياجات الاستهلاكية للمواطنين، خاصة من السلع التى يتم إنتاجها أو تجميعها فى الداخل، وفشلها مرة أخرى أمام المنتجات المستورَدة، وهذا الأمر يتطلب من الدولة إعادة النظر فى أوضاع المصنّعين المحليين، وتكلفة الإنتاج الصناعى وجميع الأسباب التى من الممكن أن تلعب دوراً فى هذا التراجع.
الثانى يتعلق بالاختلاف عن العالم كله فى إدارة تجارتنا الخارجية، ففى الوقت الذى تمرّدت فيه كل الدول الكبرى على النظم واللوائح الخاصة بمنظمة التجارة العالمية، وقواعد إدارة التجارة بين الدول واتّخذت سياسات مباشرة لحماية صناعتها المحلية من خلال فرض قيود جمركية وغير جمركية لتقييد الزيادة فى الواردات، ما زالت مصر سوقاً مفتوحة ترحب بكل «سلع العالم»، الرديئة قبل الجيّدة، والاستهلاكية قبل الاستثمارية!
وبالتالى، نحن مطالبون بإعادة النظر فى سياساتنا التجارية، وفرض قواعد جديدة لتقييد دخول المنتجات الأجنبية إلى أراضينا، على غرار ما تفعله الصين والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى حالياً، وفى الوقت ذاته نحن مطالبون بوضع قواعد جديدة لحماية المستهلك من استئثار الشركات المحلية بالسوق، وإمكانية استغلال ذلك فى تحريك الأسعار دون داعٍ.
الثالث يتعلق باستمرار تطور الغريزة الاستهلاكية لدى المصريين، وعدم التفهّم بشكل كامل لمتطلبات المرحلة الحالية، التى تفرض علينا جميعاً ترشيد الاستهلاك، وزيادة الإنتاج، من أجل دعم الاقتصاد وتحقيق الحلم المصرى فى التقدم والازدهار، خاصة بعد أن توافرت جميع مقومات هذا التقدم على أرض الواقع.
ويتطلب هذا الأمر أن يعيد كل منا النظر فى سلوكياته خاصة على صعيد ثقافة الاستهلاك، وأن نعتبر «التسوق» بمثابة أداة فعّالة لدعم الاقتصاد والصناعة الوطنية من خلال تفضيل المنتج المصرى، والتنازل، ولو مؤقتاً عن اقتناء جميع الكماليات التى لا نحتاج إليها.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع