تحتفل الأمم المتحدة اليوم بما يطلق عليه «اليوم العالمى لتحصيل المعرفة ومحو الأمية»، وهو الاحتفال الذى بدأ لأول مرة فى 8 سبتمبر 1966 بعد أن طالبت «اليونيسكو» بإدراجه ضمن الاحتفالات العالمية فى 17 نوفمبر 1965.
ولا شك أن محو الأمية لدى غير القارئين متطلب رئيسى من متطلبات العدالة والتنمية معاً، وحق أصيل لكل مواطن يعيش فى عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعى، وهو ما زال لا يستطيع «فك الخط»!
وفى تقديرى أن تسليط الجهود لمواجهة هذه الظاهرة أصبح مطلباً ملحاً فى ضوء بلوغ معدل الأمية فى مصر 25.8% بحسب تعداد عام 2017، بما يعنى أنه لدينا حالياً أكثر من 20 مليون مواطن لا يستطيعون القراءة والكتابة فى أقل التقديرات!
هذه الظاهرة تعوق بشكل كبير خطط التنمية التى تطبقها الدولة، خاصة مع وجود بيانات خطيرة تؤكد أن نسبة الأمية العالية التى تعانى منها مصر لا ترتبط بكبار السن فقط، ولكن هناك 16% من الشباب فى الفئة العمرية 18: 29 سنة لا يستطيعون القراءة والكتابة (13.5% ذكور و18.5% إناث)، بما يعنى أنه لدينا 4 ملايين شاب فى عمر العطاء والإنتاج وبناء الأسرة لا يستطيعون «فك الخط».
وهذا المؤشر خطير للغاية، وقد يحمل معه العديد من التحديات المستقبلية، فيما يتعلق بهؤلاء الشباب والفئات العمرية الأقل منهم، والمجتمع بصفة عامة، خاصة فى ظل عصر التكنولوجيا والأتمتة والذكاء الاصطناعى والبرمجة، والتحذيرات التى تطلقها المنظمات الدولية بين الحين والآخر حول تحولات جذرية متوقعة فى سوق العمل، وتغول الآلة والبرامج الذكية بشكل مفزع على وظائف البشر، الأمر الذى يتطلب من مختلف حكومات العالم إعادة تخطيط القوى العاملة لديها، وبناء نظم تعليمية جديدة تتواكب مع الاحتياجات المستقبلية المتوقعة لسوق العمل.
وهنا، إذا ما افترضنا نزول هذا السيناريو على أرض الواقع، سيواجه المتعلمون والحاصلون على الدرجات العلمية العليا مخاطر فى الاحتفاظ بوظائفهم فى المستقبل، فما بالك بغير المتعلمين الذين ما زالوا يعملون الأعمال اليدوية ويشاركون الآلة فى أعمال الصناعة والمعمار أو يقومون بدورها!
ثمة مشكلة أخرى، ستواجه الدولة نتيجة استمرار الأمية بين هذا العدد الهائل من المواطنين، وهى مشكلة ليست متعلقة بالتوظيف كما تناولنا فى السابق، وإنما مشكلة متعلقة بتنفيذ أجندة وخطة الدولة فى عدد من الملفات المهمة، أهمها التحول الرقمى والشمول المالى، وميكنة الخدمات المختلفة.
فما زال الأميون لا يستطيعون التعامل الجيد مع المصارف والخدمات المالية المختلفة، وما زالوا يتعاملون فى مدفوعاتهم بشكل تقليدى عن طريق الكاش وبعيداً عن كافة وسائل الدفع الإلكترونى الذين لا يملكون القدرة أو الثقة للتعامل معها.
وبالتالى أصبحت مسألة تأهيل هؤلاء للقراءة بمثابة أمر ملح لا يمكن تأجيله بأى حال من الأحوال، ولا يمكن الصبر عليه، بل يجب على الدولة أن تضعه فى مقدمة أولوياتها، وأتصور أن الحل الأمثل لمعالجة هذا الملف الشائك يمكن أن يتم من خلال مبادرة قومية يطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسى، وتنضم إليها منظمات مجتمع مدنى ومؤسسات خيرية ومؤسسات قطاع خاص، ويعمل فيها عدد من الجهات الحكومية ابتداءً من الهيئة العامة لتعليم الكبار وغيرها من الهيئات القادرة على تنفيذ خطة شاملة لإعلان مصر بلا أمية خلال فترة قياسية.
ولتنفيذ هذه المبادرة بشكل صحيح لدىّ بعض المقترحات، التى يمكننى إيجازها فيما يلى:
أولاً: لا بد أن يتم إجراء حصر شامل ومحدّث لكل الأميين على مستوى الدولة مهما بلغت تكلفة ومجهود هذا الحصر.
ثانياً: أن يتم توجيه البرامج التعليمية المختلفة التى تستهدف محو الأمية وتطوير المعرفة للفئات العمرية الصغيرة وذلك لأكثر من دافع؛ الأول أن هذه الفئات أكثر قدرة على الاستيعاب والمرونة فى التعلم خلال هذه المرحلة العمرية، الثانى أن هذه الفئات يمكن توجيهها للانتظام فى العملية التعليمية من خلال المسارات الطبيعية الحالية، لتقاربهم فى العمر من المنتظمين فى العملية التعليمية بالفعل.
وأشارت إحصائيات تعداد 2017 إلى أن الأمية بين الفئة العمرية 10: 14 عاماً تمثل 4.1%، وترتفع فى الفئة العمرية 15: 19 عاماً إلى 9.1%، وتواصل ارتفاعها فى الفئة 20: 24 عاماً إلى 14.8%، وفى تقديرى أن هذه الفئات الثلاث ينبغى أن تبدأ بها المبادرة القومية لمحو الأمية.
ثالثاً: لا بد أن يتم وضع المخصصات المالية الكافية لتنفيذ هذه المهمة، ووضع نظام رقابى محكم، لعدم تكرار أى مبادرات فى السابق انطلقت لمحو الأمية دون أن تحقق الأهداف المرجوة منها.
وعندما ننجح فى مواجهة أمية القراءة، هناك نوع آخر من الأمية علينا مواجهته، وهو «أمية التكنولوجيا»، وسنفتح مجالاً للحديث عنه فى المقال القادم.. بإذن الله.