بقلم : سلمان الدوسري
بداية.. الأزمة السعودية الكندية في أساسها لم تكن أبداً عن موضوعات تتعلق بقضايا «حقوق الإنسان»، بقدر ما هي فرضت على السعودية بسبب التدخل الكندي في الشؤون الداخلية للمملكة بغض النظر عن الموضوع ذاته.
هذه هي القصة باختصار. دولة تدخلت بشكل سافر في شؤون دولة أخرى، ولم تكتفِ بذلك، بل إمعاناً في الاستفزاز، قامت سفارتها في الرياض بنشر موقفها ذاك في تغريدة من حسابها وباللغة العربية، أي إن السفارة التي ينبغي أن تكون خط الدفاع الأول في أي خلافات بين بلدين، تعمّدت إشعال الأزمة بصورة ضارة لمصالح البلدين، ثم تأتي صحيفة رصينة مثل «واشنطن بوست» لتنسى كل ذلك، وتنشر افتتاحية باللغة العربية للمرة الأولى تتغافل فيها عن أسباب الأزمة تماماً، وتنحاز إلى وجهة النظر الكندية بشكل فظيع، وكل هذا ربما أمر نتفهّمه باعتبارها وجهة نظر الصحيفة التي من حقها أن تعبر عن آراء محرريها كما تشاء، إلا أن المثير حقاً هو محاولة فرض مفاهيم غربية، لم تتفق عليها حتى دول الغرب نفسها، ومطالبتها المملكة بتطبيقها بحذافيرها! نعم هكذا تريد الصحيفة الليبرالية الكبرى، أن تفرض ثقافة وقيماً مختلفة تماماً على دول تبعد عن مجتمعها آلاف الأميال، لتصل إلى نتيجة غريبة جداً بأن الفهم الكندي لمسألة حقوق الإنسان والحريات الأساسية «هو الشيء الصحيح».
وتضيف الصحيفة في منطق عجيب أن تلك المفاهيم الغربية «هي مفاهيم كونية متفق عليها»، دون أن تشرح من قال إنه متفق عليها! ومن أعطى أي دولة الحق في أن تفرض ثقافتها على دول أخرى! أما الطامة الكبرى فهي تأكيد الصحيفة العريقة أن القضايا السعودية الداخلية «هي مسائل يجب أن تكون ضمن الاهتمامات المشروعة لكل الديمقراطيات والمجتمعات الحرة»!
للأسف فإن مثل هذه الدعوات غير العقلانية، كما في افتتاحية الصحيفة الأميركية، أفضل هدية تقدم للمتطرفين الذين يروّجون لفكرة سطحية قائمة على أن الغرب يتدخل ويتآمر لتطبيق مفاهيمه على دول المنطقة، ومع التأكيد أن هناك مفاهيم عالمية عامة لحقوق الإنسان من الضروري الالتزام بها، إلا أنه ينبغي في الوقت نفسه مراعاة تنوع القيم والثقافات بوصفها عاملاً مهماً لتعزيز حقوق الإنسان وحمايتها، ولنا في عقوبة الإعدام أكبر دليل، فهناك اختلاف على تطبيقها في دول الغرب نفسه، ومن بين البلدان الصناعية هناك أربعة بلدان تطبق عقوبة الإعدام: الولايات المتحدة الأميركية، اليابان، سنغافورة، تايوان، بل داخل الولايات المتحدة نفسها، هناك 32 ولاية وحكومة اتحادية تقر العقوبة وتعمل بها، بينما بقية الولايات لا تطبقها وتعتبرها انتهاكاً لحقوق الإنسان، فإذا كانت دولة واحدة لم تتفق على مفهوم واحد بشأن حقوق الإنسان، فكيف يمكن لـ«واشنطن بوست» أن تعتبر مفاهيم بعينها «كونية ومتفقاً عليها»، وتريد تطبيق تلك المفاهيم وكأنها كلام سماوي؟!
السعودية تتعاون مع أجهزة وآليات الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان تعاوناً فاعلاً، وتواصل جهودها كعضو في مجلس حقوق الإنسان، وتصحح أخطاءها مع مرور الوقت كجزء أساسي من مشروعها الإصلاحي الذي ثبتت نتائجه على الأرض بأفعال قامت بها الحكومة السعودية، وفي نفس الوقت لا يمكن القول إن المعنى الشامل لحقوق الإنسان قد استتب في عالم اليوم، ومن الاستحالة أن يكون هناك اتفاق تام على هذا المعنى وتطبيقه مع اختلاف ثقافات العالم، في ظل انتهاكات لشعوب كاملة ما زالت مهضومة ومنتهكة. غني عن القول أن قيم كندا هي قيم تخضع للهجوم حالياً على الساحة العالمية، فدول مثل إيطاليا والنمسا قد انتخبت سياسيين يتبنون أفكاراً شبيهة بأفكار الرئيس الأميركي دونالد ترمب، التي لا تتوافق أبداً مع توجهات الحكومة الكندية المتقدمة جداً في ليبراليتها، فهل من المنطق أن تفرض الحكومة الكندية أفكارها على تلك الدول وشعوبها؟!
تعليقاً على الأزمة بين كندا والسعودية كتب الكاتب أندرو ماكدوغال في مجلة «ماكلينز» الكندية: «السؤال المطروح الآن على كندا: ما الذي يمكن أن نفعله حيال ذلك؟ قد لا يعجبنا ذلك، لكن الإجابة قد تكون أن نخفِف لهجتنا في الخارج ونبقي الحماس متَقداً في الداخل»، هذه المعادلة الصريحة والعقلانية التي تتوافق مع مفاهيم العلاقات الدولية وعدم انتهاك سيادة الدول، اعمل ما تشاء في بلدك، وطبق المفاهيم التي تراها تناسبك وتناسب مواطنيك، واترك عنك اعتبار قيمك وثقافتك هي الأعلى وما غيرها الأدنى. ليت هذه الرسالة تصل أيضاً إلى «واشنطن بوست» وتحاول فهمها على الأقل، وعدم فرض المفاهيم التي تتبناها على دول العالم.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع