توقيت القاهرة المحلي 00:09:42 آخر تحديث
  مصر اليوم -

جروح السيد الرئيس

  مصر اليوم -

جروح السيد الرئيس

غسان شربل
بقلم - غسان شربل

لا تقل إن هذه الحرب بعيدة ولا تعنيك. إنها أعنف زلزال يضرب «القرية الكونية» منذ عقود وبعنف يوازي سبع درجات على مقياس ريختر. هذه حرب تعني سعر القمح والرغيف الذي يحتاجه أطفالك. وسعر الغاز الذي يساعدك في مكافحة الصقيع. وسعر الوقود الذي لا بد منه لسيارتك. إننا في عالم شديد الترابط، لهذا تبدو المغامرات الدامية فيه أشبه بأوجاع قطع الشرايين.
ولا مبالغة في القول إنها حرب بوتين. فهي من تأليفه وتلحينه. وتمس بالضرورة موقع بلاده في النظام الدولي الجديد الذي قد يولد هذه المرة من كييف لا من برلين. وتمس بالتأكيد موقعه داخل بلاده وبعدها موقعه بين أسلافه على صفحات التاريخ. ولأنها حرب بوتين يصعب عليه العودة عنها أو العودة منها من دون ثمن يبرر اندلاعها. مطالبة سيد الكرملين بالانسحاب من أوكرانيا بلا ثمن وضمانات تذكر مع الفوارق بمطالبة صدام حسين بالانسحاب من الكويت بلا ثمن وضمانات. وتقول الكتب إن صاحب القرار يسقط أحياناً أسير قرار تسرع في اتخاذه وإن عجزه عن قبول جرح في صورته أو هيبته يتسبب في «عواقب وخيمة».
الصحافة مهنة ماكرة ومثيرة تحبب إلى المنخرطين فيها جمع الحكايات وعقد المقارنات رغم الفوارق بين الأشخاص والمسارح والمراحل. شاهدت الفيديو المسرب عن اجتماع لمجلس الأمن القومي عقده بوتين لبحث موضوع الاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين في أوكرانيا. لفتني ارتباك مدير المخابرات الروسية وحرص بوتين على استخراج الجواب الذي يريده منه. طالبه بجواب صريح وقاطع وكان له في النهاية ما أراد. ولأنني ابن الشرق الأوسط الرهيب تذكرت ما سمعت عن اجتماعات القيادة القطرية وقول صدام إنه قادر على اكتشاف الخونة من عيونهم وبمجرد التحديق بهم.
إنها تشوهات المهنة. راودني سؤال مفاده هل كان بوتين يحمل في السنوات القليلة الماضية مشروعاً لكسر رأس أوكرانيا السلافية التي سارعت إلى خيانة البيت السوفياتي وبخلت لاحقاً على روسيا برئيس موالٍ لها في كييف.
في سبتمبر (أيلول) 1979، ترأس صدام حسين وفد بلاده إلى قمة حركة عدم الانحياز التي عقدت في بلاد فيديل كاسترو ولم يكن مضى على توليه الرئاسة سوى شهرين. على هامش القمة استقبل صدام في مقره بهافانا وزير الخارجية الإيراني إبراهيم يزدي في حضور عضو القيادة العراقية صلاح عمر العلي. بعد اللقاء الذي ترددت فيه النيات الطيبة قال صلاح لصدام إن اللقاء كان إيجابياً ويمكن البناء عليه لإزالة أسباب التوتر. استمع صدام باهتمام ثم قال: «يا صلاح انتبه. هذه الفرصة قد لا تتاح إلا مرة كل مائة سنة. الفرصة متاحة اليوم. سنكسر رؤوس الإيرانيين وسنعيد كل شبر احتلوه. وسنعيد شط العرب». وفي السنة التالية اندلعت حرب صدام ضد إيران وكان ما كان.

أنا لا أقول إن بوتين يشبه صدام. جاء الرجلان من نبعين مختلفين. ولا أقول إن وضع إيران بالنسبة إلى العراق يشبه وضع أوكرانيا بالنسبة إلى روسيا. لكن الرئيس القوي يصاب أحياناً بهاجس ثأر يأخذه بعيداً ولأنه قوي يصطحب بلاده معه.
في بداية التسعينات وفي عهد يلتسين، سألت عن اسم الرجل القوي في البلاد، وهالني جواب يقول «إنه السفير الأميركي». وحين شاهدت بزات ضباط «الجيش الأحمر» تباع بحفنة من الدولارات في شارع أربات للمشاة في موسكو، سألت نفسي عن موعد الثأر الروسي. في بداية القرن أوكلت روسيا إلى رجل اسمه فلاديمير بوتين الثأر من إقدام الغرب على اغتيال الاتحاد السوفياتي بقوة النموذج والجاذبية ومن دون إطلاق الرصاص عليه.
كان صدام حسين يحمل في روحه جرحاً اسمه «اتفاق الجزائر» الذي وقّعه في 6 مارس (آذار) 1975 مع شاه إيران محمد رضا بهلوي في حضور الرئيس هواري بومدين. تجرع صدام في الاتفاق سم التنازل عن شيء من سيادة العراق للتفرغ لإجهاض الثورة الكردية، وهو ما حصل. لكن السيد الرئيس لن يرتضي أن يسجل التاريخ أنه تنازل فأطلق الحرب ومزق الاتفاق وكان ما كان لاحقاً. وبعد الخروج منتصراً من الحرب سيحمل صدام جروح الديون مضافاً إليها جرح آخر.
في سبتمبر (أيلول) 1989، استقبل صدام أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الذي جاء مهنئاً بانتهاء الحرب مع إيران وقلده «وسام الرافدين» الرفيع. ثم فاجأ الرئيس العراقي ضيفه بورقة تتضمن نص مشروع معاهدة بين البلدين وكانت الطاولة القريبة جاهزة لمراسم التوقيع. لم يتوقع صدام أن يطلب الضيف ترك النص للمختصين في البلدين لدراسته. كظم صدام غيظه لكن الجرح استقر في روحه وفي السنة التالية أرسل جيشه لاجتياح الكويت.
لم يسلم صدام بحق الجار الكويتي في انتهاج سياسة مخالفة لتوجهات العراق. ولم يتقبل أن يطلب الرئيس العائد «منتصراً» من حربه مع إيران أن يواجه اقتراحه إبرام معاهدة مع الكويت بالرفض أو الإرجاء.
تتحول المشكلة إلى مأساة حين يحمل الرئيس القوي جروحاً كثيراً في روحه. تكاثرت الجروح في قلب الكولونيل السوفياتي الوافد من عتمة الـ«كي جي بي». جرح سقوط جدار برلين. وجرح دفع الاتحاد السوفياتي إلى المتاحف. وجرح فرار الجمهوريات من دون أن تذرف دمعة على البيت السوفياتي. وجرح تحريك حلف «الناتو» بيادقه في اتجاه حدود روسيا نفسها على وقع «ثورات ملونة» وتقاسم فظ للإرث السوفياتي. كانت خيانة أوكرانيا «أم الخيانات» لهذا راح يعد لـ«أم المعارك». مزق ثياب جورجيا وأوكرانيا. استعاد القرم وتدخل عسكرياً في سوريا. أغلب الظن أنه كان يستعد للمنازلة الكبرى على المسرح الأوكراني.
الذهاب إلى الحرب أسهل بكثير من الرجوع منها خصوصاً إذا كانت روسية وعلى المسرح الأوروبي. اصطدام الاجتياح الروسي بمقاومة أوكرانية مدعومة غربياً ينذر بعواقب عسكرية واقتصادية وسياسية وإنسانية. عواقب وخيمة. لقد أصيبت «القرية الكونية» بجرح شديد الالتهاب على مقياس ريختر.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

جروح السيد الرئيس جروح السيد الرئيس



GMT 08:29 2024 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

الإجابة عِلم

GMT 08:25 2024 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

العرق الإخواني دساس!!

GMT 08:16 2024 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

وزراء فى حضرة الشيخ

GMT 08:05 2024 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

نجاة «نمرة 2 يكسب أحيانًا»!!

ياسمين صبري بإطلالات أنيقة كررت فيها لمساتها الجمالية

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 16:38 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

إطلالات مختلفة تناسب قصيرات القامة من وحي منى زكي
  مصر اليوم - إطلالات مختلفة تناسب قصيرات القامة من وحي منى زكي

GMT 23:07 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

أحمد رزق يتعاقد على مسلسل «سيد الناس» رمضان 2025
  مصر اليوم - أحمد رزق يتعاقد على مسلسل «سيد الناس» رمضان 2025

GMT 18:46 2017 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

دار Blancheur تعلن عن عرض مميز لأزياء المحجبات في لندن

GMT 10:03 2020 السبت ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

طريقة عمل الفاصوليا البيضاء

GMT 04:45 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الأمن المصري يكشف حقيقة اختطاف فتاة في منطقة "المعادي"

GMT 10:07 2020 السبت ,10 تشرين الأول / أكتوبر

الصحة: تسجيل 106 إصابات جديدة بـ كورونا و12 وفاة

GMT 11:56 2020 الخميس ,13 آب / أغسطس

7 أشكال غريبة لرفوف الكتب تعرفي عليها

GMT 17:04 2020 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

مستشار الرئاسة التركية ياسين أقطاي يوجه رسالة إلى مصر

GMT 08:00 2019 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سيات أتيكا 2020 في مصر رسميًا

GMT 03:29 2019 الثلاثاء ,25 حزيران / يونيو

داليا مصطفى تتعرَّض لعملية نصب وتُحذِّر الفنانين

GMT 08:30 2019 الأحد ,23 حزيران / يونيو

تصميمات "الفيونكة" تزيّن مجوهرات العروس في 2019

GMT 17:44 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

بلاغ ضد هالة صدقي بسبب فيديو "حثالة المجتمع"
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon