توقيت القاهرة المحلي 09:24:39 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أوهامُ السَّيد الرئيس

  مصر اليوم -

أوهامُ السَّيد الرئيس

بقلم - غسان شربل

لا أحبُّ المتشائمين لكنَّني أجد لديهم أحياناً ما يستحقُّ التوقف عنده. قالَ الدبلوماسي إنَّه غيرُ متفائل بمستقبل أوروبا والعالم معاً. عدّ أنَّ اتجاهَ فلاديمير بوتين إلى الانتصار في أوكرانيا يؤكد سقوطَ صِمَامِ أمانٍ كانت تمثّله الشرعيةُ الدولية.

الفشلُ الكبير للمنظمة الدولية ليس بسيطاً. والدَّرسُ واضحٌ: إنْ لم تكن ذئباً أكلتكَ الذئاب. الانتصار يشير أيضاً إلى تفكُّك قدرةِ الغرب على قيادة العالم. وهذا الحدثُ ليس بسيطاً على الإطلاق؛ ذلك أنَّ هيبةَ الشرطي الأميركي كانت من شروط إبرامِ التسويات وصناعة الاستقرار على رغم أخطاءِ هذا الشرطي وارتكاباتِه.

ذهبَ الدبلوماسيُّ بعيداً في التفسير. قالَ إنَّ بوتين لم يكن من بارونات الحزب ولا من جنرالات الـ«كيه جي بي». كانَ ضابطاً عادياً ولهذا يريد إنجازاً كبيراً يضمن له موقعاً مميزاً في التاريخ. وفي الحساباتِ القديمة يحتاج حجز موقعٍ متقدم إلى حرب كبرى. أغلب الظَّنِّ أنَّ بوتين ليس معجباً بأسلافِه تحت قبةِ الكرملين إذا استثنينا ستالين «رجل الحرب والبناء معاً».

ثمةَ من يعتقد أنَّ بوتين قد يذهب أبعدَ من ذلك إذا تيسَّر له الانتصار في أوكرانيا وانحنى الغربُ أمام تهديداتِه. قد يكون راغباً في حجز موقعٍ شبيهٍ بموقع كاترين الثانية التي حاربت الجيرانَ وضمَّت الأراضيَ. وربَّما كانَ يريد أن ينافسَ بطرس الأكبرَ صانعَ التَّقدمِ والأمجادِ والمعارك. طبعاً مع الفارق أنَّ بطرس الأكبر تنكّر في ثيابِ زائرٍ عادي لاستكناهِ أسباب تقدُّمِ الغرب، فيما يفضّل القيصرُ الحالي الطلاقَ مع الغرب وتهشيمَ هالتِه ونموذجه.

قال الدبلوماسيُّ إنَّ من أخطر التَّطورات اكتشافَ أن لا وجود لمؤسساتٍ في روسيا تستطيع كبحَ جماحِ القيصر إذا ذهبَ بعيداً في الأوهام. وتساءل: ماذا سيفعل العالمُ لو استيقظ ذات يومٍ ورأى الدباباتِ الروسية تخوض في لحم إحدى دول البلطيق؟ هل يبادر حلفُ «الناتو» إلى تطبيق البند الخامس من معاهدة الحلف والذي يعدّ أنَّ أيَّ اعتداءٍ على عضوٍ فيه بمثابةِ اعتداءٍ على الجميع؟ وهل سيوجد في البيتِ الأبيض رئيسٌ يجازف بالاشتباكِ مع القوات الروسية حتى ولو كانتِ الأزمةُ مفتوحةً على مخاطرِ صدامٍ نووي تتقن موسكو فنَّ التهويل به؟ ليس هناك ما هو أخطر من عزلة رجلٍ منتصر استتبَّت له الأمور تماماً، ولم يبقَ لديه ما يشغله غير استكمالِ الثأر وتلميع موقعِه على صفحات التاريخ.

أعادني الدبلوماسيُّ إلى تجاربَ سابقة. تحدَّث عن قسوة ستالين وهواجسه. تحدَّث عن كسلِ ماوتسي تونغ وقراراتِه التي كلَّفت ملايين الضحايا خصوصاً في «الثورة الثقافية». أشار إلى ما دفعته أجيالٌ كاملة في ظلّ كيم إيل سونغ ونجلِه وحفيده. لم أوافقْ على هذا السيناريو الكارثي. أعرف أنَّ بوتين يحمل مشروعَ ثأرٍ من الغرب. وأنَّه يعدّ أوكرانيا من الأراضي السليبةِ، وربَّما ينظر النظرةَ نفسَها إلى جمهوريات خانتِ الاتحادَ السوفياتي وسارعت إلى تمزيق ردائه. قال إنَّ بوتين برَّر غزوَ قواتِه بالقول إنَّ أوكرانيا ليست دولة كاملة الشرعية والصفات بل مجرد اختراع. لاحظ أنَّ نتنياهو يستخدم الأسلوبَ نفسه حيال فلسطين وشعبها. وحذَّر من أنَّ ما يجري في أوكرانيا وغزة رسالةٌ بالغةُ القسوة موجهة إلى الضعفاء في العالم، ومفادها أن لا مظلة تحمي من عدوانية جارٍ أو شراهة قوي.

لم أقتنع بالمقارنات التي أوردَها الدبلوماسي. والحقيقة أنَّ لديَّ قدراً من الإعجاب ببوتين. صعودُ هذا الرجلِ مدهشٌ. أخفى لعابَه وتقدم. وحين صارَ سيّدَ الكرملين أمضَى سنواتٍ طويلةً يخدع الغربَ مُخفياً مشاعرَه المسنونةَ وأظافرَه الطويلة.

رجلٌ بارع. وزَّع الابتساماتِ ليغطي محاولته ترميم روح «الجيش الأحمر» وأسلحتِه. انهمكَ في إخضاع الداخل ثم انتقل إلى الخارج. يعرف نقاطَ ضعفِ خصومه أو محاوريه فيعزف عليها. يُظهر الودَّ لكن الحديد ينام تحت حريرِ قفازاته. ثابتٌ في موقعِه لا يهدّده الخريف الذي يطيح سيدَ البيت الأبيض. وسيدَ الإليزيه. وساكنَ «10 داونينغ ستريت». وحاملَ لقب المستشار الألماني. والخريفُ هو الانتخابات التي جعلتها وسائلُ التواصل الاجتماعي في الغرب أشبهَ بمهزلةٍ مهينة تتميَّز بنشر الغسيلِ القذر. في روسيا القصة مختلفة. الخريفُ، كما الدستور، موظفٌ في مكتب القيصر. يهبُّ على خصومه ولا يجرؤ على الاقتراب من سيده. ووسائل التواصل وجيوشُها تمضي لياليها في أَسرّة أجهزة الأمن.

قال الدبلوماسيُّ إنَّ ستالين وماو وكيم إيل سونغ وغيرهم بدأوا مناضلين طيبين وحالمين، ثم حولتهم الممارسة قساةً يشغلهم موقعهم المقبل في التاريخ. قال إنَّ الأجهزة تعزل السيد الرئيس بحجةِ حمايته ثم تقطع علاقتَه مع الواقع لتصبح مصدره الوحيد. وإنَّ جيوش المدَّاحين تستكمل مهمةَ الأجهزة فيصبح السيد الرئيس أسيرَ مخاوفِه وصورته وهاجس استمراره.

لم أتَّفق مع كلّ تحليلات الدبلوماسي. لكنَّ كلامه ذكَّرني بما سمعتُه. قال الذين عرفوا صدام حسين شاباً إنَّه كانَ خجولاً وقليلَ الكلام ومتفانياً في خدمة الحزب ويهجس باسترجاع عظمةِ العراق. وقالَ الذين عرفوا معمر القذافي في البدايات إنَّه كان شاباً مولعاً بالقراءة يفتش بين الصفحات عن مستقبل بلادِه والأمةِ معاً مستهدياً بظل رجلٍ اسمُه جمال عبد الناصر.

تذكَّرت ما قاله لي وزيرُ خارجيةِ القذافي ومبعوثُه الأفريقي علي عبد السلام التريكي. قال إنَّ ممارسةَ السلطة غيَّرت القذافي وفصلته عن الواقع. روى أنَّ العقيدَ استدعاه ذاتَ يوم وأمره بنقل رسالةٍ إلى الملك الحسن الثاني مفادها: «نحن نعرف أنَّك رجعيٌّ وعميلٌ وضالع في مؤامراتٍ كثيرة». وشدَّد «القائد» على نقلِ الرسالةِ بحرفيتها من دون تغيير. وكان على التريكي أن يتظاهرَ بعد عودته أنَّه تقيَّدَ بالمضمون المخالف لكل الأعراف الدبلوماسية. كانَ القذافي أيضاً يكره ياسر عرفات بسبب جاذبيتِه كصاحب قضية. وكان ينزعج من «نجومية» عمرو موسى الأمينِ العام لجامعة الدول العربية فيقول للتريكي: «اطلب عمرو موسى واشتمه».

لا شكَّ أنَّ انتصارَ بوتين في أوكرانيا سيؤدي في حال حصوله إلى فتحِ صفحةٍ جديدة في العلاقات الدولية. وربَّما يضاعف الانتصارُ شهيةَ القيصر، لكنَّ التَّحرشَ مباشرة بدول «الناتو» شديدُ الخطورة. ويصعبُ تصورُ بوتين البارع يتسبَّب في وليمةٍ قاتلةٍ لبلاده وللعالم.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أوهامُ السَّيد الرئيس أوهامُ السَّيد الرئيس



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء

GMT 18:05 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

خالد جلال يُعلن قائمة البنك الأهلي لمواجهة انبي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon