توقيت القاهرة المحلي 18:32:28 آخر تحديث
  مصر اليوم -

بوتين... تفويض باستكمال الطوفان

  مصر اليوم -

بوتين تفويض باستكمال الطوفان

غسان شربل
بقلم - غسان شربل

كان ذلك في عام 1952. انفرد البريطاني إيان فليمنغ طويلاً بأوراقه. سكبَ فيها حصيلةَ هواجسِه وبراعتِه بصفته صحافياً وضابط استخبارات. هكذا تبلورت روايته «كازينو رويال». أعلنت الرواية ولادةَ ضابطٍ جاسوس بملامحَ لامعة اسمُه جيمس بوند وهو «العميل السري 007».

جاسوسٌ حادّ الذكاء وسريع البديهة بجسم رياضي جذاب. ولع بالمهمات شبهِ المستحيلة وإدمانِ العيش على حواف الأخطار. أسلوب لا يشبه إلا صاحبَه. قدرة استثنائية على كسر الأقفال وهتك الأسرار. وموهبة خداع لا تخون. سيارات مبهرة صُنعت له. وطريقة مميزة في اختيار الملابس والمقامرة واجتذاب الحسناوات. من دون أن ننسى مسدساً لا يخطئ واستعداداً للقسوة يبلغ حدَّ قتل رؤساء العصابات والعشيقات.

بعد عقد سيحتلُّ البطل الذي اخترعه فليمنغ المخيّلات والشاشات وسيقيم طويلاً فيها. يبحث المواطن العادي عن بطل. يراهن أحياناً على سياسي. ويراهن أحياناً أخرى على شاب يلعب على الشاشة، يردي خصومَه ويعود منتصراً بعد ارتكاب مغامرات كان المشاهد يشتهيها لنفسه. حصدت أفلام جيمس بوند عائدات خيالية، وشاعت شعبيته كما النار في الهشيم.

في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 1952، أنجبت سيدةٌ سوفياتية في ليننغراد طفلاً سمَّته فلاديمير. لم يخطر ببالها على الإطلاق أنَّها أنجبت روايةً أشدَّ إثارة من رواية فليمنغ وأنجبت بطلاً أخطرَ من «العميل 007».

اجتذبت شخصية بوند مشاعرَ التلميذ فلاديمير بوتين. أعجب ببراعتِه وشجاعته ورجولته وفحولته والقدرة على السباحة وسط الأشراك. دفعته الحماسة إلى التَّوجه إلى المبنى المقيم في ساحة لوبيانكا في موسكو، الذي يحتضن مقرَّ جهاز «كي جي بي» الذائع الصيت. نصحه موظفٌ صغير هناك بالذهاب إلى الجامعة والعودة بعد التخرج فيها، وهكذا كان.

يتمشَّى في مكتبه. لا شيء يعادل متعةَ الانتصار. أنا لست جو بايدن لتتسلَّى وسائل الإعلام باصطياد هفواتي وزلاتي. ولست دونالد ترمب ليتداولني المحققون. أنا الحقيقة والمحقق الوحيد. ولست سوناك أو ماكرون أو شولتس لأخشى هديرَ المعارضة وعناوين الصحف ومهرجي وسائل التواصل الاجتماعي. لا روسيا تشبه بلدانهم ولا أنا أشبههم. ثم إنَّ الحكم هو الإمساك بالسر. بالخيط المفضي إلى روح الأمة. ومن هناك يأتي التفويض والتكليف لا من صناديق الاقتراع.

تنتابه موجة رقة عابرة. ليت أمّي كانت موجودةً لتنسى التعب القديم. ليت والدي كان حياً اليوم ليشهد تحقّق تلك الجملة العابرة التي أطلقها على سرير المرض. في السنوات الأخيرة من التسعينات أقامَ والداه في المستشفى في سانت بطرسبرغ. كان يستقلّ الطائرةَ أسبوعياً من موسكو لتفقّدهما. قبل شهرين من توليه رئاسة الوزراء في صيف 1999 عرف والده بوصوله. قال للممرضات: «انظرن، لقد وصل رئيسي». كأنَّه كان يقرأ في كتاب المستقبل الذي حُرم من مشاهدته.

لن يحتفل بالفوز. ذروة المتعة أن تتذوّق الانتصار بمفردك. لا يحتاج إلى دعوة ميدفيديف وشويغو. لا تعوزه المدائح. مرَّ بباله يفغيني بريغوجين زعيم «فاغنر». مسكين لم يدرك أن لا مكان لقيصر تحت أجنحة القيصر. قال حزيناً: كنت أظن أنَّه أذكى من نافالني. زاره الغضب قليلاً. أعطيت بريغوجين ما بخل به إيان فليمنغ على جيمس بوند. أعطيته المالَ والسلاحَ وقراصنة المعلومات ومطبخَ التضليل. أعطيته ثقتي وحق تجنيد السجناء والوصول إلى المناجم والمعادن الثمينة. أعطيته إمبراطورية جيمس بوندية لكن اجتذبته الرغبة في الانتحار.

ولنفترض أنَّني أقمت احتفالاً صغيراً، فإنَّ الدعوات ستكون محدودة بالتأكيد. يمكن أن أدعوَ كاترين الثانية لأنَّها استعادت القرمَ ذات يوم. ويمكن أن يشارك بطرس الأكبر الذي كان لا يعترف في قرارة نفسِه بحدود نهائية لروسيا. ولا بأس في دعوة جوزيف ستالين ليتأكد أنَّ روسيا لا تقيم على مائدة الأمم كما الأيتام على مائدة اللئام.

لن أدعوَ أحداً. يكفي أنَّ التاريخَ سيكون حاضراً في مكتبي وسيجلس قبالتي. يبتسم. التاريخ ملحق صحافي بالحاكم الكبير يسجل خطواته ويتجسَّس عليه. التاريخ يشبه بريغوجين تعطيه كل شيء لكنَّه ينقلب عليك. كان التاريخ نادلاً مطيعاً في مكتب ستالين، لكنَّه سمح لاحقاً لخروتشوف بأن ينقضَّ على جثته. سأوصيه أن لا يكرر فعلته وهو يعرف أنَّني لا أمزح.

الغرب ساذج. توهَّمت ميركل أنَّ عائدات الغاز ستدجّن روسيا وتنزع أنيابَها. لم تشم رائحة المواجهة الكبرى المقتربة. روسيا لا تشبه إلا روسيا. شاسعة لكنَّها لا تستيقظ إلا إذا هوجمت أو طوّقت. تحتاج إلى عدو كبير وخطر داهم. أرسلت إلينا أوروبا غزاتها وقساتها. كان اسم الأول نابليون. واسم الثاني هتلر. هذه المرة ذهب الجيش لتأديب القارة العجوز الغدَّارة. في 24 فبراير (شباط) 2022 انطلق «الطوفان الأوكراني».

مسكين الغرب. هذه ليست حرباً على زيلينسكي على رغم قداسةِ التراب الأوكراني في الذاكرة الروسية. إنَّها حرب كبرى على النموذج الذي اغتال الاتحاد السوفياتي وسلبه أملاكَه. نموذج الانحطاط وتفكيك الدول والمجتمعات والعائلة والترويج للمثلية. دحر هذا النموذج من مقتضيات الأمن القومي الروسي. وتستحق المعركة التلويح بالاستعداد الدائم لوجبات نووية محتملة لبث الرعب في الأنظمة التي أدمنت الرفاهَ والاستقرار، وانتزعت لنفسها حقَّ فرضِ نموذجها المتهالك.

ممتع أن ينافسَك في الانتخابات مَن يبايعون سياساتك. أن يترشحوا مع استعداد مسبق للخسارة. وممتع أن تعرفَ نتائج الانتخابات قبل إجرائها. وأن ترجعَ منها بفوز كاسح يعطيك تفويضاً صريحاً لمتابعة الحرب الكبرى ضد الغرب.

عالمان مختلفان. يتساقط الزعماء الغربيون كأوراق الخريف وتزداد روسيا تمسكاً بمنقذها وقائدها. لا يطمئنها إلا القوي وإن ظلم. نظر إلى جليسِه وصارحه. التاريخ ليس مهنة المؤرخين. إنَّهم مجردُ آلات تسجيل. التاريخ يُكتب بحبر المنتصرين.

مخيلته أوسع من مخيلة إيان فليمنغ. ضرباته أبرعُ من ضربات جيمس بوند. وفي روسيا طبَّاخٌ وحيد اسمه القيصر.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بوتين تفويض باستكمال الطوفان بوتين تفويض باستكمال الطوفان



تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 00:04 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية
  مصر اليوم - حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية

GMT 11:43 2024 السبت ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

تامر حسني يدعو لتبني طفل عبقري

GMT 14:33 2024 السبت ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الملكة رانيا العبدالله تستمتع بوقتها مع حفيدتها

GMT 07:55 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتقاضى 634 ألف دولار يومياً مع النصر السعودي

GMT 09:37 2024 الخميس ,10 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار السيارات الكهربائية في طريقها لتراجع كبير

GMT 01:56 2018 الأحد ,07 تشرين الأول / أكتوبر

التعليم.. والسيارة ربع النقل!

GMT 05:08 2024 الأربعاء ,21 آب / أغسطس

مرشح رئاسي معتدل ينتقد سياسة الحجاب في إيران

GMT 05:33 2021 الأحد ,26 كانون الأول / ديسمبر

جالطة سراي يخطر الزمالك بتفعيل بند شراء مصطفى محمد

GMT 03:52 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تدريس الرياضيات يحسّن من مستوى الطلبة؟
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon