توقيت القاهرة المحلي 02:53:18 آخر تحديث
  مصر اليوم -

رجلٌ يحلم بجثة

  مصر اليوم -

رجلٌ يحلم بجثة

بقلم - غسان شربل

ينام منهكاً. هذه أقسَى حروبِ إسرائيل. كانت محاربة الجيوش أسهلَ. عناوينها معروفة. يمكن قصم ظهرِها. ضربُ مطاراتها وراداراتها وإحراق دباباتها. يمكن إرغامُها على تجرع سمّ وقفِ النار من دون أن تستردَّ أرضَها. وكانت قدرةُ الردع كاملة. هذه حربٌ لا تشبه ما سبق. قبل النعاس يقلّبُ التقارير. «مجمع الشفاء» يرفض أن يموت. زعم الجيش أنَّه أخضعه لكن عادَ ليعاند. نارٌ من داخله ونار من الخارج. لا بدَّ من معاركَ كثيرةٍ قبل معركة رفح.

يتفقَّد الأرقام. مئات القتلى من الضباط والجنود ومعهم آلاف الجرحى والمعوقين. خسائر الاقتصاد رهيبة لكنَّها حربُ وجود. أين هيبة إسرائيل؟ أين يدها الطويلة التي امتدت حتى عنتيبي في أوغندا واغتالت في تونس وضربت المفاعلَ العراقي وقتلت في طهران ودمشق وبيروت؟

القصة أبعدُ من الرهائن المحتجزين في أنفاق «حماس». عددهم لا يزيد على سدس عدد قتلى الجيش. عودتهم مطلوبة لكنَّها لا تكفي لتعويض الخسائر أو تبريرها. ثم إنَّ وقف الحرب بسبب عودتهم سيكون مريراً. وقف الحرب مخيفٌ ومؤلم. يعني ببساطة لجانَ مساءلة وتحقيق. ختام مروع لتجربة طويلة في الحكم. نهاية بغيضة لمن لقَّبوه «ملك إسرائيل». لن يتجرَّعَ هذه الكأس إرضاءً لبايدن وحظوظه الانتخابية. يعرف أميركا. ما أصعبَ أن تكون عدوها! ما أقسى أن تكون حليفها! قادة أوروبا جبناء يخافون من منظمات حقوق الإنسان ووسائل التواصل الاجتماعي. «العالم الحر» لم يعد حراً.

منذ انطلاق «الطوفان» يطرح السؤال نفسَه يومياً على مسؤولي «الموساد» و«الشاباك». وكل يوم يعود خائباً. لا يعرف هؤلاء أنَّ حرباً مروعة من هذا النوع لا يمكن اختتامُها بعودة الرهائن فقط والثمن المُذل للإفراج عنهم. هذه حرب كبرى لا يصحُّ أن تختتمَ إلا برفع جثة كبيرة. جثة صانع «الطوفان» ورمزه. كل ليلة ينام منهكاً وتزوره في الليل جثة يحيى السنوار.

الاغتيال عالم غني ومتنوع. صناعة قابلة دائماً لاستيعاب تطورات العصر. في عصر الذكاء الاصطناعي صار الخنجرُ عملةً قديمة. يمكن اغتيال شعب كاملٍ بسلب أرضه وطرده منها واقتلاع جذوره. بزراعتها بالمستوطنات والمستوطنين. وبأسلحة التهجير والجوع والعطش. صناعة النكبة فن يحتاج إلى القسوة والمثابرة والحلفاء. ويمكن تعقب الأعداء وبصماتهم وأنفاسهم وأصواتهم. نقلنا العصر من الخناجر والرصاص إلى المسيَّرات. المهم أن تنتهيَ الرحلة بجثةٍ تطفو على نهر النزاع الطويل.

حين لا يتَّسع المكان لاثنين، لا بدَّ من جثة. لا تتعايش شجرة مع جارة ملاصقة تنذر باقتلاعها. في نزاعات الوجود أنت قاتل أو قتيل. جثة عدوك ذهب خالص. تؤنسك. تريحك. تناجيك. وسام على صدرك. بند لامعٌ في سيرتك الذاتية وتاريخك.

لم يخترع قصة الاغتيالات. هذه مدرسة قائمة في الدولة العبرية منذ خمسة عقود. في سبتمبر (أيلول) 1972 سدَّد تنظيم «أيلول الأسود» ضربةً مدوية. اقتحم مسلحوه الجناح الإسرائيلي في دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ واحتجزوا أعضاء الفريق للمطالبة بإطلاق أسرى تحتجزهم إسرائيل. كانت النهاية دموية؛ فقد قُتل 11 رياضياً إسرائيلياً بعدما اختلط الرصاص الألماني بأنواع أخرى من الرصاص. أصيبت إسرائيلُ بصدمة هائلة. رفعت الأجهزة الأمنية تقريراً إلى رئيسة الوزراء غولدا مائير مرفقاً بخطة. بعد تردّد أقرَّت غولدا خطة «غضب الرب» التي تقضي باغتيال كلّ من له علاقة بهجوم ميونيخ. وهكذا شهد العالمُ أطولَ مسلسل اغتيالات امتدت مسارحُه من بيروت إلى عواصمَ أوروبية عدة. ومنذ تلك الأيام أُرسيت قاعدة في العمل. جثث أبرز أعداء إسرائيل تحمل دائماً توقيع رئيس الوزراء.

لا يتَّسع المجال لسرد جرائم الاغتيالات والتواقيع. تكفي بعض أمثلة. جثث كمال عدوان وأبو يوسف النجار وكمال ناصر في بيروت تحمل توقيعَ مائير وإن كان المنفذُ ضابطاً اسمه إيهود باراك. جثة خليل الوزير «أبو جهاد» عضو قيادة «فتح» وأحد مؤسسيها تحمل توقيعَ إسحق شامير. لاحقاً سيصدر باراك كرئيس للأركان أمرَ اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» عباس الموسوي الذي حملت جثته توقيع شامير. جثة فتحي الشقاقي الأمين العام المؤسس لحركة «الجهاد الإسلامي في فلسطين» تحمل توقيعَ إسحق رابين. جثث أحمد ياسين مؤسس «حماس» وخليفته عبد العزيز الرنتيسي وجنرال «القسام» صلاح شحادة تحمل توقيعَ آرييل شارون. جثة عماد مغنية القيادي البارز في «حزب الله» تحمل توقيعَ إيهود أولمرت الذي وقّع أيضاً على جثث علماء نوويين إيرانيين. جثة يحيى عياش مهندس متفجرات «حماس» تحمل توقيعَ شمعون بيريز.

بنيامين نتنياهو لا تعوزه الجثث والتواقيع. من محمود المبحوح وأحمد الجعبري وصولاً إلى صالح العاروري ومروان عيسى. صاحب الإقامة الأطول بين رؤساء وزراء إسرائيل يشعر اليومَ بحاجة قاتلة إلى جثة كبيرة.

لدى نتنياهو حسابٌ قديم مع «حماس» وإن راهنَ أحياناً على مكاسب الانقسام الفلسطيني. في 1997 كان رئيساً للوزراء ووجد على مكتبه اقتراحاً باغتيال زعيم «حماس» خالد مشعل في عمّان. كان القرارُ صعباً؛ فبين البلدين معاهدةُ سلام. استبعد «الموساد» استخدام القنابل والرصاص. أعدَّ طبخة من سمّ قاتل. رشق أحد عناصر «الموساد» مشعل بالسمّ لكن المنفذيْن وقعا في أيدي الأمن. عدَّ الملك حسين العملية إهانة وهدَّد بإعادة النظر بمعاهدة السلام. تدخلت واشنطن وطلبت من نتنياهو أن يرسلَ «الموساد» على الفور الترياق الذي يمنع انتشار السم في جسد مشعل، وهكذا كان. لم يكتفِ العاهل الأردني بإنقاذ مشعل، بل أصرَّ على إطلاق أحمد ياسين الذي سيغتاله شارون لاحقاً.

يحلم نتنياهو الآنَ بجثة يحيى السنوار. هذه الجثة قد تتيح له ادعاءَ النصر. وربَّما وقف الحرب. والقول إنَّ يد إسرائيل طالت مطلق «الطوفان». لا يستطيع تطبيق الحكمة الصينية التي تنصح صاحب الثأر بالجلوس على ضفة النهر والاكتفاء بانتظار جثة عدوّه. يريدها الآنَ ليغطي أخطاءَه وخطاياه. يريدها ليسترَ بها هشاشةَ دولةٍ اسمُها إسرائيل. يرفض أن يتعلَّمَ. كثرة التواقيع على الجثث لم تحملِ الأمنَ للدولة التي تبدو وكأنَّها وُلدت من عملية اغتيال. سياسة الجثث تَعِدُ بجثثٍ كثيرة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رجلٌ يحلم بجثة رجلٌ يحلم بجثة



GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 23:01 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

ستارمر والأمن القومي البريطاني

GMT 22:55 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حول الحرب وتغيير الخرائط

GMT 22:47 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حرب القرن

النجمات يتألقن في فساتين سهرة ذات تصاميم ملهمة لموسم الخريف

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 11:02 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

سترة كيت ميدلتون الأكثر مبيعاً بعد إطلالتها الأخيرة
  مصر اليوم - سترة كيت ميدلتون الأكثر مبيعاً بعد إطلالتها الأخيرة

GMT 21:03 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

وجهات سياحية مثالية للهروب من صخب الحياة اليومية
  مصر اليوم - وجهات سياحية مثالية للهروب من صخب الحياة اليومية

GMT 20:39 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

طرق دمج لوحات الفن التجريدي بديكور المنزل لخلق جوّ هادئ
  مصر اليوم - طرق دمج لوحات الفن التجريدي بديكور المنزل لخلق جوّ هادئ

GMT 23:59 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

حزب الله يعلن إطلاق "مرحلة جديدة" في المواجهة مع إسرائيل
  مصر اليوم - حزب الله يعلن إطلاق مرحلة جديدة في المواجهة مع إسرائيل

GMT 14:40 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

وسيلة لمنع الحمل قد تزيد من خطر تعرض النساء لسرطان الثدي
  مصر اليوم - وسيلة لمنع الحمل قد تزيد من خطر تعرض النساء لسرطان الثدي

GMT 22:35 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

إنجي المقدم تعود إلى الدراما بعد غياب 3 سنوات
  مصر اليوم - إنجي المقدم تعود إلى الدراما بعد غياب 3 سنوات

GMT 08:11 2024 الثلاثاء ,15 تشرين الأول / أكتوبر

جولة على أهم المتاحف والمعارض الفنية العالمية والعربية

GMT 00:04 2024 الإثنين ,05 آب / أغسطس

الزمالك يتعاقد مع عمر عزب لاعب كرة السلة

GMT 20:17 2020 الإثنين ,17 شباط / فبراير

مؤشر البورصة العراقية يغلق على ارتفاع

GMT 05:06 2019 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

تعرف على المواصفات والعيوب الشخصية لمواليد "برج القوس"

GMT 13:50 2019 الثلاثاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

كيفية اختيار ديكورات أسقف مطابخ منزلية عصرية

GMT 12:34 2019 الثلاثاء ,15 تشرين الأول / أكتوبر

انطلاق فعاليات مؤتمر الإفتاء الخامس بمشاركة علماء 85 دولة

GMT 06:19 2019 الأحد ,07 تموز / يوليو

رسمات أيلاينر مقوس بأسلوب عصري لصيف 2019

GMT 21:06 2019 الأحد ,16 حزيران / يونيو

علاء مبارك ينشر مقطع فيديو مؤثر عن والده

GMT 22:43 2018 الإثنين ,17 كانون الأول / ديسمبر

صورة لهيفاء وهبي تُثير الجدل على "إنستغرام"
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon