توقيت القاهرة المحلي 18:22:43 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ثلاثة صنعوا موعد جدة

  مصر اليوم -

ثلاثة صنعوا موعد جدة

بقلم - غسان شربل

ذاتَ يومٍ كنت أسأل في بغداد عن تفسير لقرار الولايات المتحدة حلَّ الجيش العراقي. لم أعثر على جواب مقنع، لا من معارضي أميركا ولا من حلفائها. اكتفى الرئيس جلال طالباني بعبارة جاء فيها: «أميركا مربكة ومرتبكة. لكنَّها قوة هائلة تستطيع أن تقدّم حين تقرر ما لا يستطيع غيرها تقديمه». والحقيقة هي أنَّ أميركا تتصرَّف عادةً كملاكم كبير أفقده تاريخٌ من تبادل الضربات القدرةَ على الإصغاء إلى أصدقائه. والنقص في القدرة على الإصغاء يضاعف أحياناً الرغبة في الإملاء. لكنَّ قدرةَ الملاكم على ارتكاب الأخطاء ترافقها أيضاً قدرة على الاعتراف بالخطأ والتصحيح، إمَّا بتغير سيد البيت الأبيض وإمَّا بإقدام مطبخ القرار على إجراء مراجعة، وذلك طبعاً انطلاقاً من قراءة المصالح الأميركية.
وقصة أميركا مع الشرق الأوسط طويلة ومعقدة. مصالحُها فيه واسعةٌ، لكنَّ قدرتَها على فهم تعقيداته أقلُّ من قدرتها على إحداث الصدمات فيه. وكثيراً ما بدا أنَّ أميركا تعبت من الشرق الأوسط وتعب منها. وفي السنوات الماضية لم تخفِ إدارات متعاقبة تراجعَ أهمية الشرق الأوسط في أجنداتها لمصلحة الاهتمام باحتواء الصعود الصيني. واعتقد كثيرون في واشنطن أنَّ هذا الجزء من العالم عالقٌ في فخ التاريخ. مشغول بحروب الماضي وثاراته وغارق في الفشل الاقتصادي واليأس والخوف من التغيير ولا يَعِد بغير أمواج المحافظة والتطرف والانتحاريين. وكادت أميركا تستقيل من هذه المنطقة، خصوصاً بعدما تراجعت حاجتها إلى نفطها.
تعلَّمنا من سلسلة القمم العربية والدولية في العقود الأخيرة الاقتصاد في التوقعات والآمال والأحكام. تنفيذ الخرائط لا يتوافق دائماً مع ملامحها الأصلية، خصوصاً في عالم متحرك ومتغير. لكنَّ سلسلة القمم التي رافقت انعقاد قمة جدة وما صدر عنها أوحت بأنَّ أميركا أجرت فعلاً شيئاً من المراجعة لعلاقاتها في المنطقة، وأنَّها بصدد إعادة صياغة دورها فيها. وسادَ انطباعٌ يذكّر بعبارة طالباني ومفادها أنَّ أميركا تستطيع حين تقرر أن تقدّمَ ما تعجز عنه أوروبا وروسيا والصين. تقدم في الدفاع والاقتصاد والتكنولوجيا والصحة والتعليم والبيئة. كان الرئيس جو بايدن واضحاً في التشديد على أنَّ أميركا قررت أن تكون شريكاً استراتيجياً لحلفائها وأصدقائها في الشرق الأوسط. وأنَّها ليست في وارد ترك فراغ يمكن أن تملأه الصين أو روسيا أو إيران. وظهر أنَّ أميركا استنتجت أنَّ العودة إلى الشرق الأوسط والتراجع عن «خطأ» الغياب يساعدها في سياساتها تجاه الصين وروسيا وإيران.
واضح أنَّ عبارات الرئيس الأميركي هذه ما كانت لتصدر -ومن جدة بالذات- لولا الزلزال الذي أحدثته الحرب الروسية في أوكرانيا. كل قراءة لعالم اليوم لا بدَّ من أن تنطلق من الهزات التي أحدثها الزلزال الذي اندلع على الأرض الأوروبية في المشهد العسكري والسياسي، وكذلك في أمن الطاقة وأسعارها وفي الأمن الغذائي أيضاً. لا يمكن أن نتناسى أيضاً اقتراب شبح الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة. استنتجت واشنطن أنَّ العودة إلى الشرق الأوسط تساعدها في احتمال تلك الهزات وربما في احتوائها وكبح بعض آثارها السلبية وقد تساعد في مواجهة الاستحقاقات الانتخابية.
وما كانت العودة الأميركية إلى الشرق الأوسط لتتم لولا عودة اللاعب العربي نفسه إلى الاضطلاع بدوره في الشرق الأوسط. مشاركة قادة مصر والأردن والعراق مع قادة التعاون الخليجي في قمة جدة، أعطت انطباعاً بتقدم قوى الاعتدال العربي للعب دور أكبر في ضمان مصالحها وفي شؤون المنطقة وفي علاقتها بالعالم. لم تعد دول الاعتدال متهمة بأنَّها عالقة في الماضي ومصنع متطرفين، وأنَّها تتفادى اتخاذ قرارات صعبة في التقدم والإصلاح والتحديث والانضمام إلى سباق المستقبل. وما كانت القمة لتنعقد في جدة بالذات لولا ظهور نتائج شرارة النهضة التي أطلقها الأمير محمد بن سلمان وحوّلت السعودية الجديدة لاعباً بارزاً ومسؤولاً في السياسة والاقتصاد والطاقة، ومحاوراً نديّاً على المستوى الدولي. وفي موازاة ورشة الاستقرار والازدهار، أطلق ولي العهد السعودي جهودَ تنقية الأجواء الخليجية والعربية، وصولاً إلى مدّ اليد إلى «الجارة» إيران، إن كانت مستعدة للقاء تحت سقف القانون الدولي وحسن الجوار. وتجربة الإصلاح الاستثنائية في السعودية رافقتها أيضاً تجاربُ إصلاحية في الدول المشاركة ما أسهم في تأهيل اللاعب العربي للعودة إلى الشرق الأوسط في موازاة العودة الأميركية. ويمكن الحديث هنا عن الدور الذي لعبته العلاقات التي أقامتها دول الاعتدال العربي في السنوات القليلة الماضية مع روسيا والصين واستوقفت بالتأكيد صناع القرار في واشنطن.
في جدة كان الحوار مختلفاً عن الماضي. كانَ الحوار السعودي - الأميركي صريحاً ونديّاً وشفافاً وواقعياً في مسائل الأمن والسياسة والطاقة. دبلوماسية المصالح المتبادلة والشراكة الجدية والأرقام. وكان الحوار الأميركي - العربي صريحاً وواضحاً. ويمكن القول إنَّ شروط التانغو كانت متوافرة. عادت أميركا بمقاربة جديدة وجاء الاعتدال العربي إلى القمة بتصورات محددة وهو يعرف ماذا يريد. ثمار الحوار الواضح ظهرت جلية. ففي البيان الخليجي - الأميركي، أعلنت أميركا بوضوح عودتها إلى التزام الدفاع عن حلفائها وتطوير قدراتهم الدفاعية لجبه الأخطار القديمة والجديدة، ومعها شراكة في ضمان حرية الملاحة في المضائق. وفي بيان قمة جدة، ظهرت النتائج أيضاً في الحديث عن الهدنة والسلام في اليمن، وعن التزام حل الدولتين والموقف من الملف الإيراني وسياسة التدخلات وزعزعة الاستقرار.
هل تشكّل سلسلة القمم في جدة منعطفاً في تطورات المنطقة والعلاقات العربية - الأميركية؟ الجواب تقدّمه المرحلة المقبلة، لكنَّ قلقَ واشنطن من الزلزال الأوكراني والصعود الصيني يساعد على الاعتقاد أنَّ التنفيذ يجب أن يقترب كثيراً من ملامح الخرائط التي رُسمت في التعامل مع ملفات كثيرة. يضاف إلى ذلك ارتفاع أصوات غربية تحذّر من أن تفوق الغرب السياسي والاقتصادي يقترب من الغروب. وقد انضم توني بلير إلى المحذرين قائلاً إنَّ «التغيير الجيوسياسي الأكبر في القرن سيأتي من الصين وليس من روسيا».
ستكون نتائجُ قمم جدة موضعَ اهتمام في عواصم قريبة وبعيدة. ستكون موضعَ دراسة متأنية في موسكو وبكين. والسؤال: كيف ستقرأ طهران مفاعيلَ عودة الدور الأميركي إلى المنطقة وعودة اللاعب العربي والصفحة الجديدة بين واشنطن وعرب الاعتدال؟
ثلاثة صنعوا موعد جدة. الأمير محمد بن سلمان. والرئيس جو بايدن. واسم الثالث معروف؛ إنه الرئيس فلاديمير بوتين.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ثلاثة صنعوا موعد جدة ثلاثة صنعوا موعد جدة



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

ياسمين صبري بإطلالات أنيقة كررت فيها لمساتها الجمالية

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 10:15 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

أفكار لتزيين واجهة المنزل المودرن والكلاسيكي
  مصر اليوم - أفكار لتزيين واجهة المنزل المودرن والكلاسيكي

GMT 07:24 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

دراسة توضح علاقة القهوة بأمراض القلب
  مصر اليوم - دراسة توضح علاقة القهوة بأمراض القلب

GMT 11:57 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

تامر حسني يكشف سبب تصميمه على كتابة أغانيه
  مصر اليوم - تامر حسني يكشف سبب تصميمه على كتابة أغانيه

GMT 18:46 2017 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

دار Blancheur تعلن عن عرض مميز لأزياء المحجبات في لندن

GMT 10:03 2020 السبت ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

طريقة عمل الفاصوليا البيضاء

GMT 04:45 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الأمن المصري يكشف حقيقة اختطاف فتاة في منطقة "المعادي"

GMT 10:07 2020 السبت ,10 تشرين الأول / أكتوبر

الصحة: تسجيل 106 إصابات جديدة بـ كورونا و12 وفاة

GMT 11:56 2020 الخميس ,13 آب / أغسطس

7 أشكال غريبة لرفوف الكتب تعرفي عليها

GMT 17:04 2020 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

مستشار الرئاسة التركية ياسين أقطاي يوجه رسالة إلى مصر

GMT 08:00 2019 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سيات أتيكا 2020 في مصر رسميًا

GMT 03:29 2019 الثلاثاء ,25 حزيران / يونيو

داليا مصطفى تتعرَّض لعملية نصب وتُحذِّر الفنانين

GMT 08:30 2019 الأحد ,23 حزيران / يونيو

تصميمات "الفيونكة" تزيّن مجوهرات العروس في 2019

GMT 17:44 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

بلاغ ضد هالة صدقي بسبب فيديو "حثالة المجتمع"
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon