توقيت القاهرة المحلي 00:03:20 آخر تحديث
  مصر اليوم -

جثة هند... ومعركة الدولة

  مصر اليوم -

جثة هند ومعركة الدولة

بقلم - غسان شربل

حاولتُ الفرارَ من جثتِها الصغيرة. تعبنَا من الرثاء. أمضينَا العمرَ جنازات جنازات جنازات. لا الغضبُ يحمي ولا الدموعُ تبلسم. نودّع مقتلةً ثم تطالعنا مذبحةٌ أشدُّ. كأنَّ هذا الشرقَ الأوسطَ الرهيبَ أدمن الاستحمامَ بالدَّمِ البريء. قلتُ ابتعدْ. اكتبْ عن الفصل الجديد في معركةِ الصراع على العراق. ثأرت أميركا لجنودِها الثلاثة فاستعجلتْ موعدَ رحيلِها عن البلاد التي غزتها في 2003 وأسقطت نظامَها. واضح أنَّ طهرانَ استدرجت واشنطن إلى معركةٍ يتعذَّر الانتصارُ فيها. وأنَّ طهرانَ غسلت سلفاً يديها من ممارسات «الأذرع» الموزعةِ على خرائطِ الممانعة.

تذكَّرت أنَّ البارحة كان يومَ ذكرى إعلانِ انتصار الثورة الخمينية في إيران في 11 فبراير (شباط) 1979. وأنَّه لا يمكن قراءة العقودِ الماضية في المنطقة من دون التَّوقفِ عندَ ذلك التاريخ. ولا يحتاج المشهدُ إلى كبيرِ شرح. إيران أقوى في العراق من الدولةِ العراقية. وأقوى في سوريا من الدولة السورية. وأقوى في لبنانَ من الدولة اللبنانية. وأقوى من الحوثيين في اليمن. أقوى وأبرعُ من حلفائها أو وكلائها. ترتّب الوليمة ولا تترك بصماتِها عليها. جولاتُ وزيرِ الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان في عواصم الممانعة تكشف الملامحَ الجديدةَ لهذا الجزء من المنطقة. تحدَّث ببراءة كأنَّه وزيرُ خارجيةِ النمسا. شدَّد على الاستقرار وعدم الانزلاق إلى الهاوية، كاشفاً أنَّ بلادَه تبادلتِ الرسائلَ مع أميركا في الأسابيع الماضية. قال إنَّ واشنطن طلبت من طهران التدخلَ لدى «حزب الله» اللبناني لمنع الانزلاقِ إلى حربٍ واسعة. ليست بسيطةً مهمةُ برمجةِ الحروب الموازية للحرب المفتوحة في موازاة حربِ غزة.

حاولت الفرارَ من حكاية هند رجب فلم أُفلحْ. في عصر التقدم والذكاء الاصطناعي وشرائحِ إيلون ماسك، رمت سنواتِها الست في وجه العالم. في وجه الغابة الدوليةِ وبنيامين نتنياهو. ألصقتها بجثةِ الضمير العالمي. لم أقرأ لعمالقةِ الرواية مشهداً أكثر قسوةً وإيلاماً. توهمت هند أنَّ ثمة مكاناً في غزة أقل خطورة من آخر. فرَّت مع أقاربها من حي تل الهوى لتفادِي الموتِ أو تأجيله. لا يحقُّ للموت أن يزورَها. ليست «إرهابية» ولا علاقة لها بالأنفاق. لم تشارك في إطلاق «طوفان الأقصى» أو أيّ طوفان آخر. كانت كجميع الأطفال تحلم بيومٍ بلا طائرات ومدافع. تحلم راضيةً بأفقر الألعابِ والنوم على أفضلِ الوسائد وهي يد أمّها. كانت تريد طريقَ المدرسة. وطريقَ الضحكات البريئة والألعاب. لم تتنبّه إلى قرار اتخذه صانعُ النكبةِ الثانية. غزةُ مكانٌ لا يصلح للعيش. غزةُ مكانٌ يُقتل فيه كل شيء يتحرَّك. غزةُ مكانٌ يُقتل فيه الأطفالُ حتى لا يتعلموا الوطن والأغاني.

صارت القصةُ شائعةً ومعروفة. انهمرَ الرصاصُ فقُتل عددٌ من ركاب السيارة باستثناء هند وصبيةٍ صغيرةٍ قريبة لها. تمَّ الاتصالُ بهما فتوسلتَا إلى المتَّصل أن يرسلَ من ينقذ. أوفد الهلالُ الأحمرُ مسعفيْن اثنيْن لكنَّ الموتَ كانَ في انتظارهما. ماتت قريبةُ هند وأقامتِ الصغيرةُ أياماً بينَ الجثث. لن يصلَ أحدٌ فحكم الإعدامِ مبرمٌ. وحين انسحبتْ قواتُ الاحتلال من المكان أطلَّت جثةُ هند المقيمةُ بين الجثث.

منذ الحرب التي أطلقَها نتنياهو رداً على هجمات السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي تدفَّق نهرُ الجثثِ الصغيرة بالآلاف. اصطادتِ الحربُ الأطفال في البيوتِ والملاجئ والطرقات. فرَّ النازحون من الموت إلى الموت. واليومَ مع حديث نتنياهو عن «النصر الكامل» والتمسُّكِ بخوض معركةِ رفح يحبسُ العالمُ أنفاسَه خوفاً من أن يتحوَّلَ نهرُ الجثث بحراً بلا حدود.

يقترب عدد من سقطوا في غزة من ثلاثين ألفَ ضحية. عددٌ يوازي سكانَ مدينةٍ صغيرة. فاقَ معدَّلُ القتلِ اليومي ما كانَ عليه في نزاعات أخرى. تميَّزت هذه الحرب بقدرتِها على حصد الأطفال. مهمةُ وقف الحربِ باتت أكثرَ إلحاحاً من أي وقت مضى. ارتكاب مذبحةٍ مروعة في رفح سيدسُّ في جسد المنطقة ألغاماً أشدَّ من السابقة. لا بدَّ من وقف النار. ولا بدَّ من فتح الأفق السياسي. ولا بدَّ من جعلِ حرب غزةَ الحربَ الأخيرة في النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي وعلى قاعدةِ قيام الدولةِ الفلسطينية المستقلة.

ما أصعبَ الرجوعَ من الحرب حين يذهب المتحاربون بعيداً فيها! وحين تختلط معركةُ الحدود بمعركة الوجود. وحين يشعر كثيرون باستحالة العيش تحت سقف واحد وصعوبة العيش في بيتين متلاصقين. لكنَّ التجاربَ تقول إنَّ محاولات شطب الآخر غير ممكنة. تنجبُ حروباً مروعةً وليست موعودة بالضربة القاضية. لهذا تبدو الصعوبات التي تواجه الوسطاءَ متوقعة تماماً. لم يطلق نتنياهو هذه الحربَ المدمرة ليسلم اليوم بالدولة الفلسطينية التي أمضى عمرَه يحاول اغتيال احتمالات قيامِها. ولم يطلق يحيى السنوار الرصاصةَ الأولى ليطلب منه لاحقاً التخلي عن إدارة غزة في مقابل دولة فلسطينية ستكون ولادتُها مشروطةَ بالاعتراف بإسرائيل.

معركة الدولةِ المستقلة هي النافذة الوحيدة لوقف دوامةِ الحروب الفلسطينية - الإسرائيلية. قيامُ الدولة الفلسطينية المستقلة ضرورةٌ فلسطينية وضرورةٌ للمنطقة التي تقيم على خط الزلازلِ منذ قيام الدولة العبرية. لا بدَّ لإدارة جو بايدن من تجاوز إدانة «الرد الإسرائيلي المفرط» إلى الاعترافِ الصريح بالدولة الفلسطينية وإقرار مسار ملزمٍ يؤدي إلى قيامها. ولا بدَّ للعربِ من خوض هذه المعركة باستجماعِ الطاقات ومخاطبةِ العالم بلغة واحدة، وهو ما رمت إليه القمةُ العربية - الإسلامية التي عقدت في الرياض بعد انطلاق الحرب الحالية.

لا بدَّ من وضع إسرائيل أمامَ الحقيقةِ التي لا مفرَّ منها. وهو ما فعله البيانُ التاريخي الذي أصدرته السعودية بالتشديد على أسبقية الاعتراف بالدولة الفلسطينية على أي سلامٍ دائمٍ يتضمَّن التطبيع. لا بدَّ للعالم العربي والإسلامي من وضع ثقلِه في الميزان مستفيداً من عواملَ عدة بينها ثقلُ السعوديةِ عربياً وإسلامياً ودولياً. الدولةُ الفلسطينية ستعيدُ الورقةَ الفلسطينية إلى أهلِها وترابها. ستخفضُ الدولة الفلسطينية منسوبَ زعزعةِ الاستقرار في المنطقة، وتعيدُ صياغةَ حدودِ الأدوار التي سهَّلها النزاع.

أفضلُ تكريمٍ لجثةِ هندٍ الصغيرة قبرٌ في ترابِ الدولة الفلسطينية المستقلة. وحدَها هذه الدولة يمكن أن توقفَ تدفُّقَ نهرِ الجثث وتفتح أبوابَ الأمل أمامَ أطفال غزة والضفةِ وما هو أبعد منهما.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

جثة هند ومعركة الدولة جثة هند ومعركة الدولة



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء

GMT 18:05 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

خالد جلال يُعلن قائمة البنك الأهلي لمواجهة انبي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon