توقيت القاهرة المحلي 13:35:40 آخر تحديث
  مصر اليوم -

نهر الاغتيالات

  مصر اليوم -

نهر الاغتيالات

بقلم - غسان شربل

فجر 11 أبريل (نيسان) 1973 عادَ الضابط إيهود باراك إلى منزله وبقايا أحمر الشفاه حاضرة على شفتيه. لعبَ الشيطان برأس زوجتِه. خشيت أن يكونَ الضابط الشاب سلك درب الخيانات. لكن الأخبار لن تتأخّر في تبديد مخاوفها. عاد مبللاً بما هو أخطر أي بالدم الفلسطيني. فقبل ساعات نزلت وحدة من الكوماندوس الإسرائيلي في بيروت واغتالت ثلاثة قياديين في حركة «فتح» هم أبو يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر. وخلال العملية المدوية أفرغ باراك، المتنكر في زي امرأة، طلقاتِ مسدسه الرشاش في جسد واحد من هؤلاء.

جاءت عملية «فردان» في سياق خطة رفعها جهاز الموساد إلى رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير، وأُطلق عليها عملية «غضب الرب»، وهي تهدف إلى قتل كل مَن له علاقة بالهجوم على الفريق الإسرائيلي الذي كانَ مشاركاً في دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ والتي اتُّهمت مجموعة «أيلول الأسود» بالوقوف وراءها. كانت العملية التي شارك فيها باراك شديدة الخطورة والبراعة لكنَّها كانت مجردَ نقطة في نهر الاغتيالات. ويقول الخبير الإسرائيلي رونين برغمان إنَّ الدولة العبرية نفذت نحو 2700 عملية اغتيال خلال 71 عاماً، أي بمعدل 38 عملية سنوياً. وها هو رئيس الموساد يطل قبل أسابيع معلناً أنَّ جهازه سيقتل كلَّ مَن له علاقة بعملية «طوفان الأقصى» التي شنَّتها «حماس» أينما كان موقعه ومهما استلزم الأمر من وقت. وجاءَ اغتيال صالح العاروري، قبل أيام في الضاحية الجنوبية في بيروت، تنفيذاً لهذا التهديد وهو ما شكَّل خروجاً خطراً عن «قواعد الاشتباك» التي سادت على الجبهة اللبنانية - الإسرائيلية بعد حرب 2006. وقد عوقب العاروري على دوره في «حماس» و«القسام» في الضفة والسجن وفي التنسيق مع «حزب الله» وسوريا وإيران في إطار «وحدة الساحات».

وتقضي القواعد المعمول بها في المؤسسة الإسرائيلية بأن يوافق رئيس الوزراء شخصياً على أي عملية اغتيال بارزة قد تكون لها عواقب سياسية وأمنية كبرى. ولهذا تحمل عمليات الاغتيال البارزة تواقيع رؤساء الوزراء المتعاقبين. وقد تحوَّلت الاغتيالات نهجاً ثابتاً في سياسة إسرائيل وهي شملت على مدار الأيام فلسطينيين ولبنانيين وسوريين وإيرانيين وآخرين من جنسيات أخرى، مستهدفة ليس فقط العسكريين بل أيضاً العلماء أو الخبراء المعنيين بالبرامج النووية وتطوير الصواريخ والمسيّرات. وفي سبيل تنفيذ الاغتيالات لم تتردد إسرائيل في توسيع مسرح العمليات، منتهكة سيادة الدول وقواعد القانون الدولي في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا.

تضاعفَ اهتمامي بنهر الاغتيالات بعد حوار أجريته في 1995 مع مؤسس حركة «الجهاد الإسلامي» في فلسطين الدكتور فتحي الشقاقي، الذي جاءَ من عباءة «الإخوان» مع تعاطف واضح مع ثورة الخميني. دخلت مكتبه في دمشق فسارع إلى ممازحتي قائلاً: «أنا لا تسألني عن الذكريات. لا يزال لديَّ كثير من العمل لأنجزه». استوقفتني في حديثه عبارات من نوع «عشت أكثر مما تصورت» و«حارس العمر الأجل». وكان طبيعياً أن يصدر مثل هذا الكلام عن شاب في الأربعينات. في تلك السنة نفذت «الجهاد الإسلامي» عملية «استشهادية مزدوجة» قرب تل أبيب أدَّت إلى مقتل عشرين عسكرياً إسرائيلياً. هدَّد رئيس الوزراء إسحق رابين بأنَّ الحدودَ لن تقف عائقاً أمام مطاردة من سماهم «الإرهابيين». نفَّذ رابين تهديده ونجح الموساد في اغتيال «الليبي» إبراهيم الشاويش خلال مروره في مالطا عائداً من ليبيا. ولم يكن الشاويش إلا فتحي الشقاقي الذي كتم اسمه المستعار حتى عن زوجته.

تدفَّق نهر الاغتيالات في أكثر من اتجاه. اغتالت إسرائيل خليل الوزير (أبو جهاد) عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح» عقاباً له على عمليات جريئة، خصوصاً على دوره في إشعال الانتفاضة الفلسطينية الأولى. اغتالت أيضاً أبو علي مصطفى الأمين العام لـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» في سياق أسلوب ما سمَّاه بعض ضباط الموساد «قطع رأس الأفعى». اغتالت إسرائيل أيضاً أحمد ياسين مؤسس «حماس» وخليفته عبد العزيز الرنتيسي وعدداً من جنرالات كتائب «عز الدين القسام». كما اغتالت إسرائيل الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني عباس الموسوي، واغتالت لاحقاً في دمشق عماد مغنية أحد أبرز القادة العسكريين في الحزب.

لا يتَّسع المجال هنا لسرد أبرز المحطات في نهر الاغتيالات. حملت الاغتيالات تواقيع غولدا مائير وإسحق رابين ومناحم بيغن وإسحق شامير وإيهود أولمرت وإرييل شارون وغيرهم. توهَّمت الحكومات الإسرائيلية أنَّ سياسة قطع الرؤوس ستكسر إرادة المطالبين بحقوقهم. واضح أنَّ هذه السياسة كانت خطرة وقصيرة النظر. والدليل ما يحدث الآن في غزة. لم تأخذ سياسة الاغتيالات أيضاً في الاعتبار حجم التغييرات التي طرأت في المنطقة، خصوصاً بعد الغزو الأميركي للعراق.

كانت سياسة الاغتيالات مروعة فعلاً. لكنَّ أخطر محطاتها في اعتقادي هو الإصرار على اغتيال فكرة السَّلام نفسها. قتل الشريك ثم التذرع بعدم وجودِ شريك. في هذا السياق بدا بنيامين نتنياهو أستاذاً في الاغتيالات. فاقت خطورة ضرباته «إنجازات» أسلافه. وهكذا شهدنا عمليات اغتيال هائلة بينها اغتيال المناخ الذي أطلقه «اتفاق أوسلو» بعد مصافحة ياسر عرفات وإسحق رابين. لم يكن الاتفاق المذكور نموذجياً لكنَّه فتح باب الأمل بالتقدم نحو حل لا بدَّ أن يسمحَ للفلسطينيين ببناء دولتهم المستقلة والانتهاء من رحلة التيه والخيام والدم.

اغتالت سياسة نتنياهو، وبمساهمة من شارون أيضاً، الأرضَ الفلسطينية بالمستوطنات. حطَّمت المؤسسات الهشة للسلطة الفلسطينية. حاصرت محمود عباس بعدما حاصرت عرفات. اغتالت أيضاً الفرصة التي شكَّلها إطلاق مبادرة السَّلام العربية في القمة التي عُقدت في بيروت. حكومة نتنياهو الأخيرة كانت حكومة اغتيال آخر فرص السلام. حكومة متطرفين تشبه العبوة الناسفة. وها هي الحكومة تردّ على «طوفان الأقصى» باغتيال غزة وسكانها. اغتيال البيوت والمستشفيات والصحافيين والمدارس والخيام. نهر من الدم وغابة من الخيام.

يجول أنتوني بلينكن في المنطقة رافعاً شعار منع الانهيار الكبير المتمثل بالحرب الإقليمية. يحاول ضبط «الحروب الموازية» التي اندلعت في المنطقة على ضفاف حرب غزة. لا حلَّ غير منع حكومة نتنياهو من متابعة اغتيال «حل الدولتين» بدءاً من منع استكمال اغتيال غزة. التهاون في هذه المسألة يعني إبقاء الشرق الأوسط غابةَ اغتيالات وعبوات وطوفانات. لا بدَّ من وقف نهر الاغتيالات. أظهرت التجارب الطويلة أنَّ قتل حامل الحلم لا يقتل الحلم، بل يجدده.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نهر الاغتيالات نهر الاغتيالات



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء

GMT 18:05 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

خالد جلال يُعلن قائمة البنك الأهلي لمواجهة انبي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon