توقيت القاهرة المحلي 19:41:35 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مذكرات مثيرة في عاصمة مغلوبة

  مصر اليوم -

مذكرات مثيرة في عاصمة مغلوبة

بقلم - غسان شربل

أيقظت الحلقة الثانية من مذكرات صائب سلام التي نشرتها «الشرق الأوسط»، أمس (الأحد)، ذكريات صيف 1982 اللبناني. كان صيفاً بنكهة السيف بحدته وأهواله وعواقبه. محطة استثنائية لا يمكن قراءة ما حل بلبنان والقضية الفلسطينية بدون التوقف طويلاً عندها.
كانت المشاهد غير مسبوقة وأكبر من القدرة على الاحتمال. مشهد الدبابات الإسرائيلية تطوّق أول عاصمة عربية وتجتاحها لاحقاً. مشهد كوفية ياسر عرفات تعاند في مدينة تنزف تحت دوي الغارات الجوية وقذائف المدافع. مشهد عرفات يقود ما سماه «أطول حرب عربية - إسرائيلية» ثم يغادر بحراً رافضاً المغادرة براً إلى سوريا. مشهد البرلمان اللبناني ينتخب بشير الجميل رئيساً للجمهورية لكن الرئيس المنتخب سيتمدد في القبر قبل تسلمه مقاليد القصر. مشهد بيروت تعاند وتقاوم ومن دون أن تذهب جروحها بآمالها في مستقبل أقل قسوة.
صيف المصائر. غادر عرفات رافعاً شارة النصر لكن منظمة التحرير خسرت في الواقع آخر موقع لها على خط التماس العربي - الإسرائيلي. تلك الخسارة ستكون سبباً رئيسياً في الذهاب إلى مدريد وبعدها إلى أوسلو. واغتيل بشير الجميل وسيندلع القتال لاحقاً بين الورثة وبينهم ميشال عون الرئيس الحالي الذي كان في ذلك الصيف ضابطاً يحمل إعجاباً شديداً ببشير وسياساته قبل أن يبحر بعد عقود في اتجاه آخر. وسيتمزق لبنان لاحقاً على دوي «حرب الجبل» و«حرب المخيمات» و«حروب الجنرال» وحروب كثيرة.
صيف المصائر. ستلتقط إيران التي كانت غارقة في حربها مع العراق فرصة الصيف اللبناني مستفيدة من غياب مصر وخروج سوريا من بيروت. سيولد «حزب الله» الذي سيترك لاحقاً بصماته على المصير اللبناني وعلى مصير أكثر من دولة عربية.
في صيف المصائر ذاك التفتت بيروت إلى شجرة بيروتية عريقة اسمها صائب سلام الذي لعب دوراً بارزاً في اختصار آلامها بعد جدالات كثيرة مع كثيرين.
محظوظ صائب سلام. غادر قبل موسم الذل الكبير. لم يشاهد لبنانياً ينقب في النفايات ليرد الجوع عنه. ولا حسرة الأمهات أمام الدكاكين. ولم يشاهد العاصمة تتقلب بين عتمة الكهرباء وعتمة السياسيين. ولم يفجع بعملية السطو على ودائع المواطنين وهو ما عجزت عن ارتكابه أبرع المافيات وعصابات الجريمة المنظمة. ولم يشهد تحلل المؤسسات وتفكك الأواصر. وتناثر الدولة وشغور القصور على رغم تصريحات ساكنيها. لم يشاهد كيف استكملوا إفراغ المدينة من روحها. وإفراغ البيوت من شبانها. وموت الجامعات. والمستشفيات. والفنادق. وإغلاق كل نوافذ الأمل. لم يسمع بالجثث التي سقطت من «قوارب الموت» وتقيم في قعر البحر. ولم يشاهد استمرار السحرة والمهرجين في تكرار الحيل والأحابيل. ولم يعاين تحول لبنان جزيرة منسية يعجز حتى عن استيفاء شروط التسوّل من صندوق النقد الدولي.
محظوظ صائب سلام. يمكن أن نتخيل حجم الآلام التي كان سيكابدها لو قيض له أن يعيش إلى هذه الأيام، وهو الذي كان يفضل من كل الألقاب التي استحق لقب «بيروتي عريق».
ولد صائب سلام في السنة الخامسة من القرن الماضي وغاب في مطلع القرن الحالي. كان شريكاً كبيراً وشاهداً كبيراً في قصة مثيرة ومحزنة اسمها لبنان. أمضى ثلاثة عشر عاماً في ظل الحكم العثماني. وعاش أيام الانتداب وشارك في معركة الاستقلال. برز رئيساً للوزراء في أربعة عهود رئاسية. وخارج الحكومة والبرلمان، كان زعيماً يجس نبض العاصمة التي ولد في بيت عريق من بيوتاتها. ولا مبالغة في القول إنه كان من علامات المدينة. بمواقفه الصريحة والجريئة وباليد الممدودة والرحابة بعدما خبر أضرار الاحتكام إلى القوة داخل العائلة اللبنانية. وأظهرت الأيام أنه كان من حفنة من الرجال أكبر من مكاتبهم وألقابهم. لم يتردد في السير ضد الرياح الغالبة حين اعتبر أن مصلحة الوطن تقتضي معارضتها. ولم يسمح لرئاسة الحكومة أن تتحول لديه هاجساً يبرر قبول الاستضعاف أو الإملاءات. ويوم صار تسوّل المكاتب والمناصب والسلامة عادة شائعة فضّل المنفى على الانحناء ثم عاد معتصماً بحكمته في الدارة التي تؤتمن على المصائر.
يتعلم الصحافي من بعض من يحاورهم أكثر مما يتعلم من الكتب. تتأخر التجارب العميقة في الجلوس على رفوف المكتبات. كان صائب سلام بمواقفه ونجاحاته وإخفاقاته يشبه دفتراً سُطرت فيه قصة لبنان. وهي قصة صعبة لأن لبنان ولد من موعد صعب بين طوائفه ومناطقه. ولم يتردد سلام في حوار أجريته معه في المجاهرة بمشاعر الرفض التي انتابته شاباً، أسوة بغالبية أبناء طائفته، حين أعلنت ولادة لبنان الكبير نتيجة إلحاق أقضية كانت تابعة لسوريا بجبل لبنان لاختراع الكيان اللبناني. ولم يتردد أيضاً في المجاهرة أنه بعد الانخراط في الموعد اللبناني لم يكن يقبل بأن يكون هناك من هو لبناني أكثر منه.
سألت صائب سلام عن الشعارات التي أطلقها وهي الأشهر في تاريخ لبنان فأجاب: يقولون صاحب شعارات. الحقيقة هي أن الشعارات ثمرة خبرة وتجربة. هل أخطأت حين رفعت شعار «لبنان واحد لا لبنانان»؟ لبنان المقسم لا يملك مقومات العيش والاستمرار. تحدثت عن «التفهم والتفاهم». على كل فريق أن ينصت إلى هواجس الفريق الآخر للانتقال من التفهم إلى التفاهم. ماذا حل بلبنان حين استولت الرؤوس الحامية على القرار؟ ورفعت شعار «لا غالب ولا مغلوب» بعد ثورة 1958. وأذكر أن كمال جنبلاط، رحمه الله، انتقدني كثيراً عليه. ألم تظهر التجربة أن أركان لبنان تهتز حين يشعر فريق أنه غالب ويشعر الآخر أنه مغلوب؟ تركيبة لبنان حساسة لا تستطيع فيها قهر شريكك لأنك تطيح بمبررات وجوده. وشدد على أن لبنان اهتز كلما حاول فريق من أبنائه الاستقواء بالخارج لتحجيم شريكه في الداخل. التطرف مناقض لطبيعة لبنان.
شدد سلام على لقاء اللبنانيين في الدولة بدلاً من تقاسمها واستباحتها. وروى أنه أثناء الحصار الإسرائيلي لبيروت سأل ياسر عرفات عن مقومات الصمود من سلاح ومال، فأبدى الزعيم الفلسطيني استعداده لفتح خزائن البنك المركزي اللبناني وأن الأموال يمكن أن تعاد لاحقاً. وكانت معارضة سلام شديدة وقاطعة.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مذكرات مثيرة في عاصمة مغلوبة مذكرات مثيرة في عاصمة مغلوبة



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل

GMT 13:13 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين مصر وموانئ دبي العالمية لتطوير منطقة حرة عامة

GMT 19:17 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

التشكيل الرسمي لمباراة إنبي والبنك الأهلي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon