توقيت القاهرة المحلي 19:22:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«أَمِنْ أجل بيروت ندمِّر العالم؟»

  مصر اليوم -

«أَمِنْ أجل بيروت ندمِّر العالم»

بقلم :غسان شربل

حين غزت القواتُ الإسرائيلية بيروت في يونيو (حزيران) 1982، كان فلاديمير بوتين ضابطاً صغيراً في إمبراطورية «كي جي بي» التي كان يديرها يوري أندروبوف. وفي خريف السنة نفسِها سيطوَّب أندروبوف سيداً للكرملين. وفي تلك السنة كان فلوديمير زيلينسكي ولداً في الرابعة من عمره، يلعب في منطقة ناطقة باللغة الروسية جنوب شرقي أوكرانيا.
لا أريد أبداً عقد مقارنات بين العملية التي سمَّتها إسرائيل «سلامة الجليل» و«العملية العسكرية الخاصة» التي تشنُّها روسيا منذ ستة أشهر على الأرض الأوكرانية. ولا أريد عقدَ أي مقارنة بين بيروت وكييف، على رغم ما قيل إنَّ خطة بوتين كانت تنصُّ على محاصرة العاصمة الأوكرانية لإرغام زيلينسكي على الفرار أو الاستسلام. ولست في وارد المقارنة بين إطلالات زيلينسكي بالقمصان الزيتونية القصيرة الأكمام، وإطلالات عرفات من بيروت المحاصرة بكوفيته وشارة النصر.
ينتمي بوتين وزيلينسكي وعرفات إلى مراحل مختلفة وقواميس متباعدة. وإذا كان عرفات اضطر في 30 يوليو (تموز) إلى المغادرة بحراً إلى منفاه الجديد في تونس، فإنَّ من المبكر التكهُّن بمستقبل رجل اسمه زيلينسكي حوَّلته الحرب نجماً ورمزاً على رغم خساراته الميدانية. ما استوقفني في الحقيقة هو أنَّ العقود الأربعة التي تفصل بين الحدثين كانت ثرية وصاخبة وشائكة، تقلَّب العالم فيها أكثر من مرة، ومعه موقع روسيا فيه.
حين طوَّقت القوات الإسرائيلية بيروت، عقد عرفات اجتماعاً للحلقة الضيقة. أبلغ الحاضرين قراراً سرياً مفاده أنَّ على «منظمة التحرير» أن تقاتلَ ستة أشهر، ثم تقرّر في ضوء المعطيات الميدانية وموازين القوى الدولية. طلب عرفات من عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح» هاني الحسن الذي كان حاضراً، إطلاق عملية سياسية بلا نتائج، أي التفاوض من أجل التفاوض تنفيذاً لقرار القتال.
قرار عرفات القتال لستة أشهر في بيروت سيصاب بانتكاسة في يوليو، حين زاره السفير السوفياتي ألكسندر سولداتوف. لم يكن عرفات يتوقع أن يصدر الاتحاد السوفياتي إنذاراً على غرار الذي أصدره نيكولاي بولغانين إبان «العدوان الثلاثي» على مصر؛ لكنه كان يأمل في موقف داعم.
فوجئ عرفات بسولداتوف يقول له: «اخرج من بيروت». سأله: «كيف أخرج؟» فأجابه: «اخرج على ظهر المدمرات الأميركية». ردَّ الزعيم الفلسطيني: «أنا ياسر عرفات أخرج على ظهر مدمرات أميركية؟». ردَّ السفير: «اخرج أنت وكوادرك. المهم المحافظة على الكوادر». قال عرفات: «والله لو خرجت من هنا لن أطاع، فأنا لست دولة». قال سولداتوف: «إذن ستؤخذ أسيراً بالشبكة»، في إشارة إلى الطريقة التي كان الجيش الإسرائيلي يعتمدها في نقل الأسرى. راقب الحسن الذي كان حاضراً تصاعد الغضب في وجه عرفات الذي قال للسفير: «إن قائداً في مسدسه طلقتان لا يؤخذ أسيراً». وأفهمت لهجة الزعيم الفلسطيني الزائر أنَّ الاجتماع قد انتهى، فلم يتأخر في المغادرة.
ذهب السفير السوفياتي أيضاً لزيارة الأمين العام لـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» الدكتور جورج حبش الذي راوده حلم تحويل بيروت ستالينغراد تقلب الموازين. سأل حبش السفير: «متى تتدخَّلون؟»، فأجابه: «أي جنون هذا؟ أمِنْ أجل بيروت ندمِّر العالم؟ اخرجوا». صُعق حبش، وقال: «كيف؟»، فرد سولداتوف: «اخرجوا تحت راية (الصليب الأحمر)». كانت خيبة حبش كبيرة حين روى للحسن تفاصيل اللقاء، واستنتج أن عليه توحيد موقفه مع موقف عرفات.
رجل آخر أصيب بخيبة شديدة. إنَّه جورج حاوي الذي كان يومها أميناً عاماً للحزب الشيوعي اللبناني. تحت دوي القنابل زار السفارة السوفياتية. حاول إقناع سولداتوف بأنْ تعلن موسكو إرسال مدمرة إلى البحر المتوسط. وحين أدرك استحالة ذلك، اقترح على السفير أن ترسل موسكو سفينة لنقل الجرحى. وفي ختام اللقاء خرج حاوي خائباً، فصار خروج المقاومة الفلسطينية قدَراً لا يمكن الهروب منه.
غادر عرفات بيروت رافعاً شارة النصر؛ لكنَّه كان يعرف أنَّ «منظمة التحرير» خسرت آخر موقع لها على خط التماس العربي- الإسرائيلي. وفي تونس البعيدة، راح يراقب الغزو العراقي للكويت، ومؤتمر مدريد، وانهيار الاتحاد السوفياتي، فقرَّر سلوك طريق أوسلو. إصراره على المغادرة بحراً سيضاعف مرارات العلاقة الشائكة التي ربطته بالرئيس حافظ الأسد.
قبل أربعة عقود أيضاً، اتَّخذ الأسد قراراً ترك بصماته على الحاضر. وافق على استقبال وحدة من «الحرس الثوري» الإيراني وصلت إلى الزبداني، وبعدها إلى جنتا في البقاع اللبناني؛ حيث أقامت معسكر تدريب سيشهد ولادة «حزب الله» بعدما أعطى الخميني مباركته لشباب لبنانيين زاروه، فشجعهم على القتال والسير في هذا الاتجاه.
لنترك الماضي وإن كان أستاذاً حصيفاً. أربعة عقود تفصل الصيف الأوكراني عن الصيف اللبناني. ومسافة شاسعة تفصل لهجة سولداتوف عن لهجة بوتين. تغيرت موسكو وتغير العالم.
بعد ستة أشهر من القتال وقعت «القرية الكونية» بأمنها وغازها وخبزها رهينة الحرب الأوكرانية. لا يبدو بوتين قادراً على الحسم سريعاً. حرمته المساعدات الغربية الكثيفة من القدرة على إعلان الانتصار. زيلينسكي ليس موعوداً بانتصار على الترسانة الروسية؛ لكنه لا يبدو في وارد الاستسلام. الهزيمة الميدانية أقلُّ إيلاماً من رفع الراية البيضاء.
ماذا لو استنتج بوتين أنَّ الضربة القاصمة مستحيلة من دون تطويق كييف نفسها؟ لن يتدخل «الناتو» لمنعه. سيكتفي الغرب بضخِّ مزيد من الأسلحة في العروق الأوكرانية. وإذا بلغ اليأس بزيلينسكي حد سؤال جوزيف بايدن: «متى تتدخَّلون؟»، سيأتيه الجواب: «أمِنْ أجل كييف ندمِّر العالم؟».

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«أَمِنْ أجل بيروت ندمِّر العالم» «أَمِنْ أجل بيروت ندمِّر العالم»



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل

GMT 13:13 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين مصر وموانئ دبي العالمية لتطوير منطقة حرة عامة

GMT 19:17 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

التشكيل الرسمي لمباراة إنبي والبنك الأهلي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon