هاتفت السياسي العراقي فأدرك الغرض. سألني عن موعد زيارتي فقلت: بعد تشكيل الحكومة عندكم. ضحك وقال: «أخشى أنك ستتأخر. لقد وقعنا كما دائماً في لعبة أكبر منا. إن تشكيل الحكومة يحتاج عملياً إلى إيجاد تسوية بين بريت ماكغورك (المبعوث الرئاسي الأميركي في التحالف الدولي ضد داعش) وقاسم سليماني (قائد فيلق القدس). صحيح أن التجاذب بين طهران وواشنطن على أرض العراق ليس جديداً. لكن الصحيح أيضاً أنه يقترب هذه المرة من معركة كسر عظم، لأنه يدور على خلفية الأزمة الناجمة من انسحاب إدارة دونالد ترمب من الاتفاق النووي وعودة أميركا إلى فرض عقوبات موجعة على إيران».
وأضاف: «لم يحدث أن كان إطار البحث عن الحكومة بمثل هذه الصعوبة. لم يرمم عهد ما بعد صدام حسين العلاقات بين المكونات بل فاقمها. دعك من تصريحات المجاملة العلنية، والتدهور في العلاقات العربية - الكردية لا يحتاج إلى دليل منذ استفتاء العام الماضي وعملية التأديب التي تبعته والعلاقات الشيعية - السنية ليست هي الأخرى في أفضل أحوالها. تضاف إلى الصورة التمزقات داخل المكونات نفسها. (البيت الشيعي) نفسه منقسم على الرغم من النشاط الإيراني المحموم. والخلافات بين السنة العرب لا تخفيها صورة تذكارية تحت سقف واحد. والبيت الكردي معروف أصلاً بظاهرة الانقسامات عند المفترقات».
وقال: «منذ سقوط صدام حصل نوع من التعايش بين النفوذين الأميركي والإيراني على أرض العراق. والتزمت طهران بقدر من التعايش هذا لتشجيع الأميركيين على الانسحاب أولاً، ثم لتسهيل التوصل إلى الاتفاق النووي في عهد أوباما. الوضع مختلف تماماً اليوم. الاقتصاد الإيراني في وضع سيئ. وإذا ذهبت إدارة ترمب بعيداً في الاتجاه الذي أعلنت عنه لن يكون مستبعداً أن تقرر إيران كسر التوازن وتحجيم النفوذ الأميركي. ولمعركة من هذا النوع أثمانها حتى بالنسبة إلى التوازنات الداخلية في العراق وكذلك بالنسبة لموقع العراق في الاصطفاف الإقليمي».
ولم ينسَ السياسي أن يذكرني في ختام المكالمة بأن العراق ليس البلد الوحيد المريض، وأن لبنان يبحث أيضاً عن حكومة جديدة قد تتأخر ولادتها بسبب الأزمة المتصاعدة بين طهران وواشنطن، لأن للخلاف على أحجام الكتل علاقة بسياسات أكبر منها.
اتصلت بسياسي آخر. بدت الصورة لديه أشد قتامة إذ انطلق في الحديث من الأنباء الصحافية الأخيرة التي تحدثت عن قيام إيران بتزويد الميليشيات الموالية لها في العراق وسوريا ولبنان واليمن بصواريخ متفاوتة المسافات، إضافة إلى إقامة مصانع صواريخ في هذه البلدان. ولاحظ «أن الوجود العسكري الروسي في سوريا يحرم إيران من التصرف بحرية مطلقة. وإذا اختارت طهران نشر قوة صاروخية في العراق لتهديد إسرائيل والدول الخليجية، فإن فصلاً جديداً صعباً من المأساة العراقية سيبدأ، خصوصاً إذا قررت إيران إسناد أدوار حوثية لميليشيات الحشد الشعبي العراقي».
واضح أن اللعبة أفلتت مرة أخرى من أيدي العراقيين. وأن الطبقة السياسية أضاعت فرصة استرجاع العراق من أيدي اللاعبين الخارجيين على رغم الاحتكام مرات عدة إلى صناديق الاقتراع. وأن منطق الدولة لا يزال اللاعب الأضعف على أرض العراق، وأن الشراهات الداخلية والخارجية جعلت من انتهاك الدستور ممارسة طبيعية مقبولة.
هل يعقل أن يكون العراق في هذه الحالة بعد مرور خمسة عشر عاماً على إسقاط نظام صدام؟ المؤلم الآن أنه لم يعد باستطاعة السياسيين العراقيين تعليق التدهور على شماعة النظام البائد أو على قرار بول بريمر بحل الجيش. المؤلم أن العراق شهد بعد رحيل صدام أكبر وليمة فساد في العصر الحديث وثمة من يعتقد أنها تفوق ما عاشته روسيا غداة انهيار الاتحاد السوفياتي. قصة المليارات الضائعة لم تعد بحاجة إلى توثيق. لم تعد الشراهة مرضاً بل تحولت وباءً لم تردعه محاولات التلقيح الخجولة.
حالت الشراهة السياسية والمالية ونزعات الاستئثار والغلبة دون ترميم روح التركيبة العراقية. لا الفريق الذي اعتبر نفسه منتصراً نجح في عقلنة انتصاره ولا الفريق الذي اعتبر نفسه مهزوماً نجح في عقلنة خسارته. انتصر منطق التربص والتأجيل والرهان على المظلات الخارجية. كشفت إطلالة «داعش» الدموية افتقار البلد ومؤسساته إلى الحصانة. حالت هذه العقلية مثلاً دون الالتزام بالمادة 140 التي نصت على معالجة ملف المناطق المتنازع عليها. وهكذا تسمم التانغو العربي - الكردي. وأدت السياسات والتربصات الفئوية إلى تسميم التانغو الشيعي - السني. وفي هذا المناخ عاد منطق المحاصصة والميليشيات ليتقدم على منطق الدولة والدستور والمؤسسات.
لا يمكن إعفاء المواطن العراقي العادي من المسؤولية تماماً كما لا يمكن إعفاء اللبناني مثلاً. يتذمر المواطن من الفاسدين والشرهين وملتهمي الدولة، ثم يذهب لأسباب فئوية لانتخاب صانعي المأساة التي يشكو منها. المواطن شريك للقوى السياسية في إضاعة الفرص.
ليس بسيطاً أن يعود العراقي إلى رفع مطالب بديهية من نوع المطالبة بالكهرباء ومياه الشرب والخدمات الأساسية، في وقت يلتهم فيه الشرهون ميزانيات الوزارات من دون أن يرف لهم جفن. بلد يسبح في بحر من الأزمات وتضيع ثروته وسط معارك الاستئثار والشراهة والانصياع لإرادات خارجية.
ليس بسيطاً أن ينتظر العراقي العادي نتائج جولات قاسم سليماني على السياسيين موزعاً التنبيهات والضمادات والتطمينات، ولا أن ينتظر نتائج زيارات ماكغورك والتي استدعت أيضاً اتصالات من وزير الخارجية الأميركي مايكل بومبيو. إن تعثر تانغو التعايش في الداخل ينذر بدورة جديدة من التدهور إذا شهدنا في الفترة المقبلة سقوطاً نهائياً للتانغو الإيراني - الأميركي على أرض العراق.
لا حل بلا دولة تستحق التسمية. ولا بدّ من التانغو. وشرط النجاح في الرقص أن تفهم شريكك وتوزن خطواتك على خطواته. لا بدّ من إخضاع السياسيين العراقيين واللبنانيين لدورات مكثفة في أصول التانغو. الشراهة تفشل الرقصة وتقتل الدولة.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنيه
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع