توقيت القاهرة المحلي 22:53:06 آخر تحديث
  مصر اليوم -

السيد الرئيس جاء لينتقم

  مصر اليوم -

السيد الرئيس جاء لينتقم

بقلم :غسان شربل

يخاطب فلاديمير بوتين أميركا بلهجة الواثق أن نجمَها محكومٌ بالأفول. يهندس لغماً هائلاً في أوكرانيا، ويطالب بثمنٍ باهظٍ في مقابل صرف النظر عن تفجيره. يتحدث عن أوكرانيا معدداً شروطَه، لا طارحاً مطالبه. تَكرارُ اللعبة يفضح أسرارَها. لقد اخترع الكرملين الحماوة الحالية في الأزمة الأوكرانية من الألف إلى الياء. ربما كان محقاً في أن الغرب لم يلتزم تعهداتِ جيمس بيكر بأن حلف «الناتو» لن يتحرك شرقاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. لكن لائحة المخاوف الروسية تبدو لائحة أعذارٍ مفتعلة لابتزاز الغرب.
يصعبُ التكهُّنُ بما يدور في رأس بوتين. تجربة العالم معه تفيد أنه أستاذ في إخفاء نواياه. خدع الزعماء الغربيين كثيراً يوم كان محتاجاً لتلقيح الخريطة الروسية ضد وباء التفكك وترميم هيبة الجيش وأسلحتِه. بعض من عرفوه يقولون إنه أستاذٌ في علم التضليل، أي في المادة التي تدرس في الكليات الحربية ومعاهد الاستخبارات. براعتُه لم تعد تحتاج إلى دليل. يمكن القول إن وصفاتِه المنطلقة من برنامجه الثأري صارت رائجة. كلُّ مظاهرة هي مشروع لزعزعة الاستقرار. كلُّ انتفاضة مؤامرة من صنع الخارج. منظمات المجتمع المدني مجرد دكاكين تديرها السفارات لتحقيق مخططات مشبوهة. أفاد من الممارسات الفظة للمتطرفين الأصوليين في «الربيع العربي» لتنظيم حملة كراهية دولية لأي ميول ربيعية. كل تغيير مشبوه، ويستحسن دفنُه في وقت مبكر. يوفّر لاختراقاته غطاءً كافياً. يتهم بالإعداد لهجمات كيماوية من لا يمتلك القدرة ولا النية. يتهم بالإرهاب أحياناً من لا يحلم بأكثرَ من خفض الفساد ومنسوب القسوة في زجر المواطنين.
على ضوء هذه الترسانة التي بلورها في الأعوام الأخيرة تعامل بوتين سريعاً مع الأحداث التي عصفت بكازاخستان. فور اندلاع الاحتجاجات على ارتفاع أسعار الوقود، التي ترافقت مع أعمال شغب، سارع رئيس كازاخستان قاسم توكاييف إلى الغرف من قاموس بوتين. ندد بـ«العصابات» و«الإرهابيين الدوليين» ولم يتأخر في الاتصال بـ«العيادة الروسية». ولم يكن وارداً بالنسبة إلى بوتين السماح بهبوب رياح التغيير أو زعزعة الاستقرار في هذا البلد المجاور الهائل المساحة والنائم على ثروات كبرى. وهكذا هندسَ الكرملين عملية تدخل باسم «منظمة معاهدة الأمن الجماعي» لتغطية العودة العسكرية الروسية إلى هذه الجمهورية التي وُلدت من الركام السوفياتي. سارع بوتين إلى إغلاق النافذة الجديدة ليتفرغ لمهمته الأساسية وهي استنزاف الغرب وخصوصاً أميركا.
بوتين ليس الوحيد المعني باستنزاف أميركا والغرب. غاب قاسم سليماني من دون أن يحقق حلمه في رؤية «الشيطان الأكبر» ينزف حتى الموت. الرجل الذي أبهجته في بدايات الثورة مشاهد الأميركيين أسرى في سفارة بلادهم في طهران طارد الأميركيين في عواصم كثيرة. يمكن القول إنه ذهب بعيداً حين وافق على استقبال بعض من قيادات «القاعدة» وتسهيل مرور آخرين إلى العراق. وعلى أرض العراق كانت بصمات سليماني واضحة في التسبب في مقتل عدد غير قليل من الأميركيين. كان استنزاف أميركا الهدف الكبير في معركة الجنرال الجوال المسكون بهاجس اختراق الخرائط وتغيير ملامحها. تَدخلُ في السياق نفسه الجهود لقطع علاقات واشنطن بعواصم المنطقة. تعتقد طهران أن الخيط الأميركي هو الحارس للتوازنات القائمة في الإقليم منذ عقود. وعلى مدى عقود، ساهم سليماني في محاولة استنزاف الغرب وخصوصاً أميركا. أغلبُ الظن أنه لم يتوقع أن يجرؤَ رئيسٌ أميركي على إصدار أمر بقتله. فعلَها دونالد ترمب.
غابَ أسامة بن لادن من دون أن يحقّق حلمَه في أن يراقبَ عن قرب انسحاب الجيش الأميركي مثخناً من أفغانستان، على غرار ما حدث لـ«الجيش الأحمر» السوفياتي. كان حلم بن لادن أن يستدرجَ الآلة العسكرية الأميركية إلى حيث يتعذّر الانتصار، أي إلى التضاريس الصعبة في أفغانستان. ربما كان يقرأ في كتاب التاريخ الذي يصف تلك البلاد الشائكة بأنها «مقبرة الإمبراطوريات». وكان لبن لادن شريكٌ أفغاني في حلم استنزاف أميركا هو زعيم «طالبان» السابق الملا عمر. غاب الشريكُ الأفغاني أيضاً قبل أن تستقيلَ أميركاً من المغامرة الأفغانية، عبر انسحاب متسرع ترك أفغانستان محتلة من قبل جيش الجوع و«طالبان» عاجزة عن مقاومته.
قطعت أميركا رأسَ «القاعدة». قطعت أيضاً رأسَ «داعش». غاب أبو بكر البغدادي من دون أن يحقّق حلمَه في ديمومة «دولة الخلافة» واستنزاف أميركا وحلفائها. يخطئ من يقلّل من حجم الاستنزاف الذي تعرضت له أميركا على أيدي سليماني وبن لادن والملا عمر والبغدادي من دون أن ننسى أبو مصعب الزرقاوي. لكن الأكيد هو أن أميركا التي أصيبت في هذه الحرب لم تمت فيها. يمكن القول إنها ردت على الهجمات التي استهدفتها بعقوبات أنهكت الاقتصاد الإيراني وبتفكيك «القاعدة» وتدمير معقل «داعش» وترك «طالبان» تقلع شوكَها بيديها في بلاد جائعة. قدرة «الإسلاميين» على استنزاف أميركا محدودة بسبب خلفياتهم والنموذج الذي يعجزون عن منافسته وتقديم بديل له.
قدرة بوتين على استنزاف أميركا تفوق بكثير قدرة سليماني وبن لادن والبغدادي والملا عمر. إنه رئيس روسيا الشاسعة وقائد الترسانة الهائلة، وحامل سيف الفيتو في مجلس الأمن، والممسك بحنفية الغاز التي تقي الأوروبيين خطر التجمّد في صقيع الشتاء. يستطيع أن يحقّقَ ما عجز الآخرون عن تحقيقه. رجل قوي يزعم أنه خائف. يحاصر الآخرين ويدعي أنه محاصر. يزعزع استقرارَ العالم الأميركي ويعبّر عن خوف روسيا على استقرارها.
ليس بسيطاً أن يحوّل بوتين موضوع غزو أوكرانيا خبراً مطروحاً في ردهات السياسة الدولية ومكاتب جنرالات «الناتو». هل يراهن على أن تؤدي المفاوضات التي ستجرى هذا الأسبوع إلى دقّ إسفين بين أميركا وأوروبا؟ وهل يعتقد أنّه يستطيع أن يخدع بايدن في أوكرانيا كما خدع أوباما في سوريا؟ هل يعتقد أن خوفَ أميركا من «الخطر الصيني» قد يدفعها إلى استرضاء روسيا والتنازل عن بعض المكاسب التي حققتها غداة انهيار الاتحاد السوفياتي؟ الأسئلة كثيرة. لكن الأكيد أن بوتين يواصل قيادة معركة استنزاف أميركا. والأكيد أنه جاء من صفوف الـ«كي جي بي» إلى مكتب ستالين لينتقم من الذين شطبوا الاتحاد السوفياتي من الخريطة ودفعوه إلى المتاحف.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

السيد الرئيس جاء لينتقم السيد الرئيس جاء لينتقم



GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 23:01 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

ستارمر والأمن القومي البريطاني

GMT 22:55 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حول الحرب وتغيير الخرائط

إطلالات عملية ومريحة للنجمات في مهرجان الجونة أبرزها ليسرا وهند صبري

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 02:55 2024 الإثنين ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أبرز قصات فساتين الزفاف الهالتر الرائجة في 2025
  مصر اليوم - أبرز قصات فساتين الزفاف الهالتر الرائجة في 2025

GMT 18:09 2024 الإثنين ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

بانكوك وجهة سياحية أوروبية تجمع بين الثقافة والترفيه
  مصر اليوم - بانكوك وجهة سياحية أوروبية تجمع بين الثقافة والترفيه

GMT 08:32 2024 الإثنين ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

غوتيريس "قلق جدا" لوجود قوات كورية شمالية في روسيا
  مصر اليوم - غوتيريس قلق جدا لوجود قوات كورية شمالية في روسيا

GMT 21:23 2024 الإثنين ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

السيسي يستقبل البرهان ويؤكد على ضرورة وقف إطلاق النار
  مصر اليوم - السيسي يستقبل البرهان ويؤكد على ضرورة وقف إطلاق النار

GMT 17:24 2024 الإثنين ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة حديثة تكشف صلة محتملة بين الاكتئاب وارتفاع حرارة الجسم
  مصر اليوم - دراسة حديثة تكشف صلة محتملة بين الاكتئاب وارتفاع حرارة الجسم

GMT 07:55 2024 الإثنين ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

نتنياهو يحدد 3 مفاتيح لاستعادة الأمن في شمال إسرائيل
  مصر اليوم - نتنياهو يحدد 3 مفاتيح لاستعادة الأمن في شمال إسرائيل

GMT 21:27 2024 الخميس ,24 تشرين الأول / أكتوبر

محمد صلاح خارج سباق المنافسة على جائزة أفضل لاعب أفريقي

GMT 07:36 2024 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

ياسمين صبري تتألق بالقفطان في مدينة مراكش المغربية

GMT 13:13 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

نظام غذائي مستلهم من الصيام لتحسين صحة الكلى

GMT 13:55 2018 السبت ,06 تشرين الأول / أكتوبر

الهلال يستضيف الزمالك في ليلة السوبر السعودي المصري

GMT 12:19 2018 الإثنين ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مصر تحصد 31 ميدالية متنوعة مع ختام بطولتي الرماية

GMT 06:22 2024 الجمعة ,09 آب / أغسطس

عمرو أديب يحذر من فيلم سبايدر مان الجديد

GMT 11:18 2019 الثلاثاء ,20 آب / أغسطس

اهمية تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى مصر

GMT 22:37 2019 الإثنين ,18 آذار/ مارس

" ابو العروسة " والعودة للزمن الجميل

GMT 00:36 2019 الخميس ,31 كانون الثاني / يناير

برشلونة يقسو على إشبيلية وميسي يُسجِّل في الوقت الضائع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon