توقيت القاهرة المحلي 22:45:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

لبنان... رصاص التباعد بين القواميس

  مصر اليوم -

لبنان رصاص التباعد بين القواميس

بقلم :غسان شربل

ما أصعبَ الكتابة وسط الحرقة واللوعة! بكاء من خسرت ابنَها، وحزن من فقدت شقيقَها، ودموع من انضم إلى قافلة الأيتام. وواضح أنَّ كلَّ قتل داخل الوطن يتضمَّن قتلاً للوطن، وبغض النظر عن الملابسات والظروف، دمُ كل مواطن جزء من دم الوطن، إهداره جريمة تستحقُّ شديدَ العقاب ولكن عبر العدالة.
ما أصعبَ الكتابة! لأنَّنا نحكي عن بلاد الخوف والخائفين. بلاد لا يجيد القوي الحالي فيها فنَّ طمأنة المذعور، ولا يجيد الخائف سلوكَ طريق الواقعية وخفض الأضرار. وتتكرَّر المآسي كلما تغيّر اسم القوي واسم المذعور.
أعرف تماماً مسرحَ الأحداث الأخيرة المؤلمة في لبنان. جلتُ فيه مراتٍ كثيرة منذ عقود. وأتردّد عليه خلال زياراتي إلى لبنان كمن يتفقَّد المسرح الذي انطلقت منه الرصاصة الأولى في حرب لبنان في 13 أبريل (نيسان) 1975. تفقَّدت كثيراً الطريق التي تفصل عين الرمانة عن الشياح. افتعلت أسباباً عدة لزيارة الدكاكين الصغيرة على الجانبين ومعاينة الصور المعلقة فيها والتمعن في قواميس أصحاب الدكاكين وتعابيرهم. كنت أكتب عن الحرب واجتذبني مربع ولادتها.
على جانبي الطريق احتشد لبنانيون فقراء أو من ذوي الدخل المحدود من العمّال وصغار الموظفين والجنود والمتقاعدين. جاؤوا إلى بيروت بعدما ضاقت بهم سبلُ العيش في الجنوب أو البقاع أو الشمال. وبينهم من جاؤوا مرغمين يحملون مرارات التهجير الذي أطلقته الحرب. لبنانيون بسطاء يحلمون بالكرامة والخبز وتأمين إرسال الأطفال إلى المدارس. الشياح يكتظُّ بالشيعة وعين الرمانة تكتظُّ بالمسيحيين. وكان بين شباب الشياح من تستميله الأحزاب اليسارية قبل أن تجتذبَهم هالة الإمام موسى الصدر فينخرط كثير منهم في حركة «أمل» خصوصاً بعد انتفاضة 6 فبراير (شباط) 1984 بقيادة نبيه بري. وكان شباب عين الرمانة ينجذبون إلى حزبي «الكتائب» و«الوطنيين الأحرار» قبل أن تنعقد السيطرة لـ«القوات اللبنانية» بزعامة بشير الجميل.
لم يخطر ببال سكان عين الرمانة ولا ببال سكان الحي المجاور أنَّ حدثاً بدا بعيداً للوهلة الأولى سيحضر بقوة لاحقاً على جانبي الطريق التي لا يتعدَّى عرضها عشرة أمتار. إنَّه الثورة الإيرانية بقيادة الخميني في 1979. وفي 1982 وبعد الغزو الإسرائيلي للبنان وفيما كان أبناء عين الرمانة يحتفلون بانتخاب بشير الجميل رئيساً ثم يبكون في وداعه قبل دخوله القصر، كانت إيران تضع اللبنات الأولى لبناء «حزب الله» اللبناني. الحزب هو التغيير الكبير الذي طرأ على الساحة الشيعية والمشهد اللبناني، خصوصاً بعد دوره في تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي. وفي حين كان الحزب يعزز حضوره السياسي وآلتَه العسكرية والأمنية في بداية القرن الحالي، كان سمير جعجع في السجن وميشال عون في منفاه الفرنسي. وسرعان ما بدا أنَّ الحزب الذي ورث دور سوريا في لبنان بعد انسحاب قواتها من لبنان إثر اغتيال رفيق الحريري هو مشروع أكبر من قدرة الدولة اللبنانية على احتوائه. تأكد هذا الانطباع حين كسر الحزب بالقوة العسكرية إرادة اللاعبين السنّي والدرزي في أحداث 7 مايو (أيار) 2008. كما تأكد حين خرج الحزب من لبنان ليلعب أدواراً عسكرية وأمنية في سوريا وغيرها.
ما يسمعه زائر «المناطق الحدودية» بين الطوائف اللبنانية كعين الرمانة والشويفات وقصقص وصيدا وغيرها يشير إلى أزمة عميقة تعيشها البلاد وتبدو غير قادرة على مواجهتها. يستحيل بناء دولة طبيعية في ضوء الواقع القائم على الأرض والدليل هو انهيار ما كان تبقى من الدولة. اقتصاد مدمر، وعزلة عربية ودولية، وقلق متصاعد لدى المجموعات اللبنانية، فهي تشعر بسقوط لبنان السابق وليست مطمئنة إلى موقعها في لبنان المقبل. يضاف إلى ذلك شعور بقية الطوائف أنَّ «حزب الله» أخرج الطائفة الشيعية من النسيج الوطني ليبني فيها نموذجاً صارماً وموصداً يهدّد بالاصطدام الدائم بالمكونات الأخرى في بلد قام على التعدد.
كانت تفصل الشياح عن عين الرمانة طريق يمكن عبورها بسهولة حين يتوقف إطلاق النار. الآن تتَّسع المسافة بين سكان المنطقتين. في الدكان في الشياح يمكنك العثور على صورة الإمام الصدر ونبيه بري أو صورة حسن نصر الله وصور عناصر «حزب الله» و«المقاومة الإسلامية» الذين سقطوا في معاركهما. وفي الدكان في عين الرمانة يمكنك العثور على صورة لبشير الجميل وسمير جعجع، وأحياناً للبطريرك الراحل نصر الله صفير فضلاً عن شارات «المقاومة المسيحية».
قبل خمسة أعوام كان هناك في عين الرمانة والمناطق التي تشبهها من يراهن على ترميم الحد الأدنى من الدولة بعد انتخاب ميشال عون. وتوقع كثيرون أن يحصلَ الجنرال بعد موقفه الملتبس من الاغتيالات والمحكمة الدولية، وبعد تحالفه مع «حزب الله» على هدايا لمصلحة الدولة وهيبتها. حصل ما هو العكس تماماً. تسمع في عين الرمانة وغيرها مرارات من عون «الذي أخذ ما يعتبره حقَّه في الرئاسة وتخلى عن الجمهورية». ينتقدون بقوة الرجل «الذي شارك في تعطيل الاستحقاقات الدستورية ودخل القصر وانشغل بترتيب مستقبل صهره لا مستقبل البلاد والأجيال».
قبل خمسة أعوام كان هناك من يعتقد أنَّ عون لن يضيع الفرصة، وأنَّه سيحاول جدياً أن يكونَ الجسر بين المكونات، وأن يستعيدَ للدولة شيئاً من بريق مؤسساتها فيتجدد رهان المجموعات على الدولة لا على الصقور. وكان هناك من يعتقد أنَّ عون سيخلع لدى دخوله القصر عباءته الحزبية وأحقاد الماضي، وأنَّه سيكرّس نفسه مرجعاً وطنياً وراعياً لترميم المعادلة اللبنانية. وفوجئ كثيرون أنَّ سنوات الرئيس انقضت في حروب صغيرة غير مقنعة، وكيديات أضعفت علاقته بمعظم المكونات ضاعفها غياب الود القديم مع الرئيس بري. الانهيار الكبير وغير المسبوق الذي شهده عهد عون وسلوك الرئيس كأنَّه مراقب معارض أضعف رصيده وشعبيته، خصوصاً بعد اغتيال مرفأ بيروت. انحسار الرهان على عون ساهم في تعزيز موقع سمير جعجع الذي بات كبير المنخرطين في مواجهة مشروع «حزب الله».
هل يريد اللبنانيون العيش معاً؟ إذا كان الرد بالإيجاب فلا خيار غير تبادل التنازلات. لا بد من موعد في منتصف الطريق أو نقطة قريبة منها. إنَّ التخاطب بالرصاص والإملاءات وفرض الملامح بالغ الخطورة في بلد متعدد تشكل الهشاشة جزءاً من قصته. لا بدَّ من العودة إلى الجلوس تحت سقف الدستور. لا بدَّ من قضاء مستقل لا تكسر إرادته ولا تنتقص عدالته تبعاً لمزاج القوى السياسية. لا بدَّ من العودة إلى مفردات مشتركة، فالدولة العادلة لا تؤسس على الغلبة أو القهر أو كسر الإرادات. لا بدَّ من مراجعة كي لا تتحول الطريق التي كانت تفصل بين حيين هما عين الرمانة والشياح إلى هاوية تفصل بين عالمين. لا بد من محاكمة كل من قتل. لكن لا بدَّ أيضاً من العودة إلى روح لبنان واحترام حق الاختلاف واستجماع شظايا دولة تعيد البناء من الصفر. دولة تستطيع ترميم الحديقة الهشة التي مزقتها وطأة الصقور. ولم يعد سراً أنَّ التباعد يقضم التعايش. وأنَّ الهوة بين الأحياء المتجاورة تتسع، وأنَّ افتراق القواميس يتضاعف. كان من المؤلم أن يدوّي رصاص جديد قرب مسرح الرصاصة الأولى. واضح أنَّ نصر الله يغرف من قاموس لا يشبه القاموس الذي يغرف منه جعجع. وواضح أنَّ عون ضاع في الهوة الفاصلة بين القواميس.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لبنان رصاص التباعد بين القواميس لبنان رصاص التباعد بين القواميس



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon