توقيت القاهرة المحلي 10:50:40 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الفلسطينيون وسلاح الوقت

  مصر اليوم -

الفلسطينيون وسلاح الوقت

بقلم: غسان شربل

كانَ ذلك في دمشق يوم كنت أحاور الدكتور جورج حبش لتسجيل بعض ذكرياته. كانت إرادة الرجل حديدية رغم متاعبه الصحية وانزلاق العالم عكس ما يشتهي. قلت لزعيم «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» إنَّ العالم يتغير لكن ليس لمصلحة الفلسطينيين. تبخَّر الاتحاد السوفياتي وتبخَّر «الرفاق» الذين كانوا يقدمون المساعدة أو الملاذ. ولفتّه إلى الوضع القائم في المنطقة بعد الغزو العراقي للكويت. ثم سألته إن كان بقي لديه ما يراهن عليه. أنصت حبش قليلاً ثم قال: أراهن على شعوري أنَّ الظلم لا يمكن أنْ يستمر إلى الأبد وأراهن قبل ذلك على شعبنا. سألته إنْ كان يعتقد أنَّ الوقت يعمل لصالح الفلسطينيين فرد أنَّ الوقت يعمل لمصلحة من يحسن التعامل معه وتوظيفه. واستوقفني كلامه، خصوصاً أنَّه لم يكن معروفاً بـ«الواقعية».
كنت أفكر في الصيف الفلسطيني الحالي الساخن، حين عادت إلى بالي مشاهد صيف قديم ساخن ترك آثاره على الوضع الذي نراه. في مثل هذا الشهر من العام 1982 كان الجيش الإسرائيلي يطوّق بيروت ويمطرها بمختلف أسلحة القتل. ومنذ بداية الشهر نضجت لدى قائد المدافعين عن المدينة المحاصرة ياسر عرفات فكرة مغادرتها، بعدما تأكدت استحالة أي خيار آخر.
كان من الطبيعي أن يقصد الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي السفارة السوفياتية في بيروت. العاصمة اللبنانية محاصرة وفي داخلها قيادة المقاومة الفلسطينية وآلاف المقاتلين، إضافة إلى مقاتلي «الحركة الوطنية» اللبنانية ووحدات الجيش السوري التي كانت منتشرة في بيروت. لم يخدع السفير ألكسندر سولداتوف «الرفيق» الزائر ووعده بالدعم المعنوي والدبلوماسي والإعلامي، لكنه لم يلمح إلى أي خطوة على الأرض يمكن أن تلجم آلة القتل الإسرائيلية وتفرض وقفاً للنار. وكان من الصعب على حاوي أن يكشف خيبته بوضوح أمام قادة القوى المحاصرة في بيروت، لهذا اصطحب عرفات للقاء السفير وسمع الزعيم الفلسطيني الكلام نفسه فضاقت الخيارات ولم يبق غير تحسين شروط مغادرة بيروت.
وهكذا في آخر أغسطس (آب) 1982 جال عرفات على القيادات اللبنانية في المدينة المحاصرة مودعاً، ثم صعد إلى السفينة بعد وداع مهيب. في ذلك الصيف حققت إسرائيل هدفاً كبيراً وخطراً يتمثل في إبعاد منظمة التحرير الفلسطينية عن آخر موقع لها على خطوط التماس العربية - الإسرائيلية بعدما كانت أخرجت من الأردن ومنعت من العمل عبر الأراضي السورية.
في تونس البعيدة كان على عرفات أن يراهن على الورقة الأخيرة وهي الشعب الفلسطيني المقيم تحت الاحتلال. ولم يتردد الشعب في الانتفاض مسقطاً كل محاولات شطب الهوية وفرض الاستسلام. لكن عرفات وجد نفسه فجأة أمام زلزالين. الأول غزو العراق للكويت وما تبعه والفترة الشائكة التي قامت بفعل التباسات موقف القيادة الفلسطينية. الزلزال الثاني انتقال الاتحاد السوفياتي فجأة من موقع القوة العظمى إلى رفوف المتاحف والتاريخ. ومن ركام القوات العراقية التي غزت الكويت وركام الإمبراطورية السوفياتية، ولد العالم الأميركي الذي كان بطبيعته يعزز موقع إسرائيل في صراعها مع الفلسطينيين.
خاف عرفات من انحسار علاقات المنظمة عربياً ومن التحولات المقلقة دولياً. خاف أيضاً حين شعر أن أبرز أركان قيادته صاروا في عداد الشهداء. خاف من الوقت واعتبر أن عليه إسقاط المحظورات في مقابل الحصول على حق الإقامة والانتظار على بعض أرض فلسطين وفي ظل علم فلسطيني. ثم إنَّ العالم الجديد لا يوفر ضمانة أفضل من الضمانة الأميركية، لهذا كان التوقيع على اتفاق أوسلو في حديقة الورود في البيت الأبيض برعاية الشريك الأميركي.
تعرض «أوسلو» لهجوم شديد. أصيب إصابة كبرى باغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين. وأصيب أكثر حين تبيَّن أنَّ إسرائيل لم تقبل بتسوية عادلة أو شبه عادلة، وأنها تستخدم عناوين السلام لإدامة سيطرتها وتمكين مشروعها. وأصيب كذلك حين بدأت «حماس» و«الجهاد» وبدعم من إيران العمليات الانتحارية التي ستلقي بظلها لاحقاً على الانتفاضة وهو ما سيستخدمه شارون لمحاصرة عرفات على أرض فلسطين، بعدما كان حاصره في بيروت. ومرة جديدة عمل الوقت ضد الفلسطينيين في عالم ما بعد هجمات 11 سبتمبر والغزو الأميركي للعراق، حين تقدم حديث مكافحة الإرهاب على كل ما عداه.
بعد الغزو الأميركي للعراق وتدفق النفوذ الإيراني في الإقليم راحت الأولويات تتغير لدى دول المنطقة. ضاعف هبوب رياح «الربيع العربي» بنكهته «الإخوانية» مخاوف دول المنطقة على أمنها، خصوصاً بعدما بدا أن تركيا وإيران تستعدان لما يشبه التقاسم لبعض الساحات العربية. لم يعد الموضوع الفلسطيني الموضوع الوحيد أو لم يعد الموضوع الأول. انشغلت الدول إما بمواجهة «داعش» وإما بتحصين نفسها ضد التدخلات الإيرانية والتركية.
ولا مبالغة في القول إنَّ أحداث القرن الحالي شهدت انحساراً في ثقل العرب في الإقليم وانحساراً في ثقل الموضوع الفلسطيني في الإقليم والعالم. هذه حقيقة مؤلمة لا مجال لإنكارها. يكفي أن نلتفت إلى العلاقة الدافئة القائمة بين نتنياهو وبوتين لندرك حجم الخسارة الفلسطينية. وفي الوقت نفسه أدى الانقسام الفلسطيني العميق بين غزة والضفة إلى إضعاف الصوت الفلسطيني في المنطقة والعالم ما تسبب أيضاً بإضعاف أي صدى لمشروع السلام العربي الذي أقرته قمة بيروت في 2002.
في ظل هذا المشهد العربي والإقليمي والدولي راحت الدول تجري حساباتها وتتفقد مصالحها وشروط انخراطها الكامل في العالم الجديد وشبكة علاقاته التجارية والسياسية. اعتبرت الدول أن قرار إقامة علاقات مع إسرائيل هو قرار سيادي يعود إلى كل دولة ما دامت لا تنوب عن الفلسطينيين ولا تحاول التحدث باسمهم أو إلزامهم. وفي هذا السياق يمكن النظر إلى الاتفاق بين دولة الإمارات وإسرائيل والذي تعهدت الأخيرة بموجبه تجميد توجهها نحو ضم أجزاء من الضفة، وهو الأمر الذي كان يمكن أن يقتل أي تفكير بحل الدولتين.
واضح أن الوقت يترك آثاره الصريحة على تطلعات الفلسطينيين. الواقعية تقول إنَّ أفضل ما يمكن للجانب الفلسطيني أن يفعله الآن هو أن يتجاوز الانقسام القاتل على قاعدة العودة إلى المطالبة بمبادرة السلام العربية كأساس للتفاوض. استخدمت إسرائيل سلاح الوقت ضد الفلسطينيين لابتلاع الأرض وفرض وقائع ميدانية كما وظفت التحولات الدولية والإقليمية لتقليص شعور العالم بالحاجة إلى السلام العادل. لكن كل ذلك لا ينفي أن السلام الفعلي لا يمكن أن يقوم من دون حل الدولتين.
وليس سراً أنَّ الإمارات شعرت، ما شعرته دول أخرى أيضاً، أن سياسة القطيعة والمقاطعة لم تحقق لا مصلحة الفلسطينيين ولا مصلحة العرب، ولهذا اختارت مقاربة أخرى تقوم على الاتصال والاعتراف لطرح المشكلات العالقة في مناخ مختلف. ويمكن للفلسطينيين الإفادة من النافذة الإماراتية لشرح موقفهم أكثر للجانب الأميركي أولاً ومن ثم للجانب الإسرائيلي. ويعرف الفلسطينيون أن ربط قضيتهم بتصفية حسابات مع الولايات المتحدة أو بمشاريع هيمنة إقليمية لن يؤدّي إلا إلى إضاعة مزيد من الوقت والأرض.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الفلسطينيون وسلاح الوقت الفلسطينيون وسلاح الوقت



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon