توقيت القاهرة المحلي 18:08:06 آخر تحديث
  مصر اليوم -

السيد الرئيس لا يحبُّ النصيحة

  مصر اليوم -

السيد الرئيس لا يحبُّ النصيحة

بقلم:غسان شربل

أحياناً يرفضُ صاحبُ القرار نصيحةً ذهبية كان يمكن للأخذ بها إنقاذُ شعوبٍ وخرائطَ، والحيلولة دون إهدار بحرٍ من الدماء وأمواجٍ من اللاجئين. وتزداد الخطورةُ حين يتعلَّق الأمر برئيس دولة عظمى تتكئ على ترسانةٍ عاتية. مشكلة الأصوات العاقلة أنَّها لا تتوغَّلُ غالباً في أذن صاحبِ القرار، خصوصاً في المنعطفات الحادة ومناخ البحث عن فرصة ثأر أو انتقام، حتى ولو كانت في مكانٍ خطر وغير مناسب.
هذا ما حصل على هامش قمة لحلف «الناتو» عُقدت في براغ في نوفمبر (تشرين الثاني) 2002. كانَ الرئيس الفرنسي جاك شيراك قلقاً من الغيوم السوداء التي تتجمَّع لتبرير غزو أميركي للعراق. جلسَ قبالةَ جورج بوش الابن، وقالَ له كلاماً صريحاً يشبهُ القراءةَ في السنوات المقبلة. قال شيراك: «إن وقوعَ حرب سيضرب الاستقرار في المنطقة، وسيكون من نتائجه إيصالُ الشيعةِ الموالين لإيران إلى السلطة في بغداد، وتعزيز نفوذ طهران في دمشق ولبنان عبرَ (حزب الله). ثم إنَّ هذه الحرب لن تكون شرعية، فضلاً على أنَّها ستُحدث انقساماً داخل الأسرة الدولية وستمرغ شرف الغرب، كذلك فإنَّها ستتسبَّب في فوضى من شأنها إطلاق موجةٍ من الإرهاب سيكون من الصعب السيطرة عليها».
لم يُظهر بوش أيَّ رغبةٍ في الاستماع إلى النصيحة. كانت أميركا مجروحةً من هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، ونظرَ مستشارو الرئيس الأميركي إلى فرنسا كدولة قديمة خانعة. والرواية من كتاب لموريس غوردو مونتاني الذي كان مستشاراً دبلوماسياً لشيراك، وتولَّى أيضاً منصبَ الأمين العام للخارجية. ولا ضرورةَ للتذكير بالأدلة التي تؤكد صحةَ توقعاتِ شيراك ومعرفته بالتوازنات التاريخية في المنطقة، والتي لم تستوقفْ صقورَ الإدارةِ الأميركية والمحافظين الجدد.
ذكَّرني كلامُ شيراك بما سمعته من رجل كان شاهداً في قصر الرئاسة العراقي في عهد صدام حسين. قال إنَّ طارق عزيز جاءَ إلى العشاء متأخراً وبوجه قاتم. كانَ الشخص الرابع في العشاء الذي أقيم في منزل أحمد حسين رئيس ديوان الرئاسة. كانَ عزيز يدرك أنَّ عباءةَ الصمت هي عباءة السلامة، لكنَّه كانَ يشمُّ رائحةَ الكارثة، وأراد أن يسجّلَ أمام أصدقائه أنَّه لم يساهم في استعجالها.
روى عزيز أنَّ القيادةَ اجتمعت برئاسة صدام حسين (بعد ثمانية أيام من الاجتياح العراقي للكويت). طُرح في الاجتماع موضوعُ ضمِّ الكويت إلى العراق، واعتبارها المحافظةَ التاسعةَ عشرةَ. سارع «رجال الرئيس» إلى الترحيب. قال عزيز إنَّه كوزير للخارجية لفتَ إلى العواقب التي يمكن أن تترتَّبَ على ضمّ دولةٍ عضو في الأمم المتحدة، وأنَّ الغربَ سيستغلُّ الخطوةَ لتأليب الرأي العام الدولي ضد العراق، وتمهيد الأجواء لاستهدافه. قال بعض الحاضرين إنَّ أميركا وإسرائيل لا تحترمان القانونَ الدوليَّ، فأوضح عزيز أنَّ العراقَ دولةٌ متواضعةُ الحجم، ويمكن أن تلحقَ بها أضرارٌ، في حين أنَّ أميركا دولة كبرى.
لاحظ عزيز أنَّ أعضاءَ القيادة لم يستسيغوا كلامَه على الإطلاق، وبدا من عيونهم أنَّهم يُعدون لإثارة غضب الرئيس القائد ضده، فاكتفى بما قاله، وكان الختامُ إعلانَ ضمّ الكويت و«إعادة الفرع إلى الأصل». والحقيقة أنَّ طارق عزيز كان من «رجال الرئيس»، لكنَّه كان يمتاز عن رفاقه ورئيسهم بأنَّه يعرف العالم وموازين القوى فيه. وكان يأمل في حال الأخذ بنصيحته أن ينتقلَ لاحقاً إلى طرح فكرة الانسحاب من الكويت قبل هبوب عاصفةِ الحرب.
أدرك المشاركون في العشاء خطورةَ ما سمعوه. سأل صاحبُ المنزل عزيز عن النتيجة المتوقعة، فاكتفى بالقول: «وحده الله يعلم النتيجة». كان العشاءُ صعباً وكئيباً، وغادر عزيز بشعور مَن تيقَّنَ أنَّ المركبَ يغرق.
في خريف 2021 تجمَّعت لدى الأجهزة الأميركية معلوماتٌ عن استعدادات عسكرية روسية قرب حدود أوكرانيا. تخوَّفت واشنطن من أنَّ الرئيس فلاديمير بوتين قد يكون في طريقه إلى توجيه ضربةٍ إلى أوكرانيا. أوفد الرئيس جو بايدن مدير «سي آي إيه» وليام بيرنز إلى موسكو حاملاً ما يشبه النصيحة والتحذير. أوصل بيرنز الرسالة إلى سيد الكرملين، وجوهرها أنَّ واشنطن تنصح بعدم ضرب أوكرانيا أو التدخل عسكرياً في أراضيها، وأنَّها لن تتساهلَ في حال حصول ذلك. لم يأخذ بوتين نصيحةَ بيرنز على محمل الجد، ومثلها التحذير المتضمن فيها. في 24 فبراير (شباط) 2022 أطلقت موسكو «العملية العسكرية الخاصة»، واشتعلت الحرب الأوكرانية التي تحولت مبارزة بين السلاحين الروسي والأطلسي.
سيكون مثيراً لو عرفنا ذات يوم شيئاً مشابهاً لِما قاله شيراك لبوش الابن، ولِما قاله طارق عزيز في اجتماع القيادة العراقية. هل كان موقف سيرغي لافروف - المجرب والمحنك، ويُفترض أنَّه يعرف العالم - شبيهاً بموقف عزيز؟ وهل تحاشى - وهو من «رجال الرئيس» - إغضابَ الرفاق الآخرين الأقربين إلى أذن سيد الكرملين؟ هل هناك مَن قدَّمَ نصيحةً بعدم اجتياح أوكرانيا وحذَّر من العواقب؟
لا مبالغةَ في القول إنَّنا نخوض في بدايات أخطر سنة منذ أيام الحرب العالمية الثانية. استقرار روسيا حيويٌّ لمحيطها وللعالم. لا مصلحة لأحد في روسيا مضطربة يمكن أن تتطايرَ أجزاء من خريطتها على غرار ما أصاب الاتحاد السوفياتي. روسيا دولة عريقة وكبيرة ولا يترسَّخ استقرار العالم من دون استقرارها. أغلب الظَّنِّ أنَّها ستربح الحرب إذا طالت، مستفيدةً من التناقضات الأميركية الداخلية والهشاشة الأوروبية. لكن ماذا ينفع روسيا إذا ضمَّت مقاطعات أوكرانية واستيقظت «الألغام» النائمة في جسدها؟
دفع العراقُ ثمنَ «أم المعارك» الصدّامية. ودفع الشرق الأوسط ثمن «أم المعارك» البوشية. لا نريد أن يدفعَ العالمُ ثمن «أم المعارك» البوتينية. صحيح أنَّ بوتين ليس بوش الابن، وليس صدام حسين، لكنَّ المخيفَ هو أن نكتشفَ، ما يصدق في أكثر من مكان، وهو أنَّ السيدَ الرئيس لا يحب النصيحة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

السيد الرئيس لا يحبُّ النصيحة السيد الرئيس لا يحبُّ النصيحة



GMT 08:29 2024 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

الإجابة عِلم

GMT 08:25 2024 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

العرق الإخواني دساس!!

GMT 08:16 2024 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

وزراء فى حضرة الشيخ

GMT 08:05 2024 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

نجاة «نمرة 2 يكسب أحيانًا»!!

ياسمين صبري بإطلالات أنيقة كررت فيها لمساتها الجمالية

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 10:15 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

أفكار لتزيين واجهة المنزل المودرن والكلاسيكي
  مصر اليوم - أفكار لتزيين واجهة المنزل المودرن والكلاسيكي

GMT 07:24 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

دراسة توضح علاقة القهوة بأمراض القلب
  مصر اليوم - دراسة توضح علاقة القهوة بأمراض القلب

GMT 11:57 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

تامر حسني يكشف سبب تصميمه على كتابة أغانيه
  مصر اليوم - تامر حسني يكشف سبب تصميمه على كتابة أغانيه

GMT 18:46 2017 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

دار Blancheur تعلن عن عرض مميز لأزياء المحجبات في لندن

GMT 10:03 2020 السبت ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

طريقة عمل الفاصوليا البيضاء

GMT 04:45 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الأمن المصري يكشف حقيقة اختطاف فتاة في منطقة "المعادي"

GMT 10:07 2020 السبت ,10 تشرين الأول / أكتوبر

الصحة: تسجيل 106 إصابات جديدة بـ كورونا و12 وفاة

GMT 11:56 2020 الخميس ,13 آب / أغسطس

7 أشكال غريبة لرفوف الكتب تعرفي عليها

GMT 17:04 2020 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

مستشار الرئاسة التركية ياسين أقطاي يوجه رسالة إلى مصر

GMT 08:00 2019 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سيات أتيكا 2020 في مصر رسميًا

GMT 03:29 2019 الثلاثاء ,25 حزيران / يونيو

داليا مصطفى تتعرَّض لعملية نصب وتُحذِّر الفنانين

GMT 08:30 2019 الأحد ,23 حزيران / يونيو

تصميمات "الفيونكة" تزيّن مجوهرات العروس في 2019

GMT 17:44 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

بلاغ ضد هالة صدقي بسبب فيديو "حثالة المجتمع"
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon