توقيت القاهرة المحلي 13:08:00 آخر تحديث
  مصر اليوم -

لبنان... و«اليوم التالي»

  مصر اليوم -

لبنان و«اليوم التالي»

بقلم:غسان شربل

شاءتِ المهنةُ أن أكونَ في دمشقَ يوم اغتيالِ الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير (شباط) 2005. راودني خلالَ الليل شعورٌ بأنَّ زلزالاً عنيفاً ضربَ العلاقات اللبنانية - السورية. وزمن الزلازلِ يحتاج إلى حكماء لا إلى أقوياء. في طريق العودة في اليوم التالي، توقَّفت في بلدة شتورة لتناول فنجان قهوةٍ مع صديق. استوقفني كلامُه، قال: «بعض ممارسات المخابراتِ السورية مزعجة، وأنا لست من مؤيدي وجودهم الدائم، لكنَّني لا أخفي عليك أنَّني أخاف من انسحابِهم بسبب معرفتي باللبنانيين وانقساماتهم».

عدت إلى بيروتَ وكانت تغلي. شعرتْ غالبيةُ اللبنانيين أنَّ العمودَ الفقري قد انكسر. خرجت أصواتٌ كثيرة غاضبة تطالب بانسحاب القوات السورية وتحمّلُها مسؤوليةَ اغتيال الحريري. كانتِ الأيام عنيفةً ومقلقة. غلبني الفضولُ الصحافي فدخلت في آخر ذلك الشَّهر مكتبَ الرئيس بشار الأسد. لم يكنِ الحديث للنشر. سألت الأسدَ إن كانت قوات بلادِه ستنسحب من لبنان، فردّ مشيراً إلى رأي لدى العسكريين يعتبر أنَّ وجودها في شريط داخل البقاع اللبناني يسهّل الدفاعَ عن دمشق في مواجهة أي اعتداء إسرائيلي. استفسرت عن القرار الذي سيتخذُه في حال تصاعد الضغوط الدولية عليه لسحب قواتِه، فردّ بأنَّه سيصدر أمرَ الانسحاب إلى الحدود الدولية.

كانَ الأسد قاطعاً في قوله أنْ لا علاقة لسوريا باغتيال الحريري. قلت له: لماذا الجزم إلى هذا الحدّ، ولماذا لا تترك على الأقل احتمالاً أنَّ جهازاً غريباً اخترق أجهزتكم لتنفيذ الاغتيال؟ فرد قائلاً: «نحن دولة وليست لدينا دكاكين من هذا النوع. لا علاقة لنا، وستُظهر لك الأيام ذلك». سألته أيضاً عن لقائه القصير والأخير مع الحريري وأشياءَ أخرى، ولا مكان لذلك في هذا السياق.

في مرحلة الوجود العسكري السوري في لبنان كان مركز المخابرات السوريةِ في عنجر البقاعية صانعَ الأحكام والأختام والأحجام. ترك انسحاب «المرشد» السوري فراغاً هائلاً لم تنجحِ القوى السياسية اللبنانية في ملئِه تحت خيار الدولة وسقف اتفاق الطائف. وتعمّق الانقسام حين أشارت أجهزة الأمن اللبنانية إلى ملامح تورط عناصر من «حزب الله» في اغتيال الحريري. وتدافعتِ الأحداث وأدَّت حرب 2006 إلى ترسيخ موقع لبنان في حلف الممانعة الذي تقوده إيران. ضاعت فرصةُ العودة إلى الدولة، وتكرّس لبنان ساحةً لصراعات إقليمية أكبر منه.

يتعرّض لبنان حالياً لعدوان إسرائيلي مدمّر ينذر استمرارُه بتحوّله نكبةً للبلد الصغير. شطبت آلة القتلِ الإسرائيلية قرى كاملةً من الخريطة، وأنزلت ببيئة «حزب الله» خسائرَ هائلة. وحظيَ انطلاق هذا العدوان بتعاطف أو تفهّم غربي بذريعة أن «حزب الله» اختار أصلاً الذهاب إلى الحرب عبر إعلان «جبهة الإسناد» غداة انطلاق «طوفان الأقصى». واضح أنَّ الحزب كان يأمل بتبادلٍ محدود للضربات تحت ما سُمي «قواعد الاشتباك». لم تكنِ الحسابات دقيقةً، خصوصاً حين تم الإصرار على «وحدة الساحات» رغم تمكّن بنيامين نتنياهو من تحويل الحرب «حرباً وجودية» تستحق، في نظره، تحمّل خسائرَ بشرية واقتصادية كانت إسرائيل سابقاً تحرص على تفاديها.

لم يستجب لبنانُ باكراً لنصائح المبعوث الأميركي آموس هوكستين. استجاب بعد وقوع الفأس في الرأس. خسائر هائلة في بلد يقف على شفير هاوية أعمق. لا دواء لدى هوكستين غير القرار الأممي 1701 الذي وُلد من حرب 2006. قرار انتهكته إسرائيلُ باستمرار، وتولّى «حزب الله» تجويفه، خصوصاً بعدما تحوّل «قوة إقليمية» ترسل مقاتلين ومستشارين إلى خرائطَ قريبة وبعيدة. هل كان لبنان ليواجه المأساة الحالية لو تمَّ تطبيق القرار منذ صدوره؟ هذا السؤال تخطاه الوقت ولا بدَّ من تطبيق القرار الآن في البلاد التي تتقلَّب على الجمر وسط بحر من الركام. أحياناً لا بدَّ للمريض من تناول الدواء المرّ لتفادي ما هو أدهَى، أي تفكّك لبنان وضياعه.

الخروج الحقيقي من الحرب الحالية وأكلافِها الباهظة يضع القوى اللبنانيةَ أمام مسؤولية تاريخية، بعيداً عن سياسات الإنكار وعدم استخلاص الدروس أو التشفي وتعميق الجروح. لا بدَّ من تطبيق القرار 1701 كاملاً لاستعادة ثقة المجتمع الدولي، وتشجيعه على الانخراط في عملية إعادة الإعمار. وهذا يعني طيّ صفحةِ لبنان كساحةٍ، وبدءَ رحلة العودة إلى لبنانَ الدولة الطبيعية. ومفتاح العودة إلى الدولة هو تطبيق اتفاق الطائف من دون التشاطر على نصه وروحه والالتفاف عليهما. لا بدَّ من قراءةٍ عميقة في أهوال الحرب وسبل الخروج منها وضمان عدم تكرارها.

التطبيق الجدي للقرار 1701 يُدخل تعديلاً كبيراً على دور «حزب الله» الإقليمي. وعلى حضور إيران على خط التماس مع إسرائيل في جنوب لبنان. هذا يعني عملياً خروج لبنان من «وحدة الساحات» التي يحاول العراق حالياً تفادي الانخراط في الشق العسكري منها. هذا التغيير ليس بسيطاً، لكن لا بدَّ منه كي يستطيعَ اللبنانيون اللقاء مجدداً تحت سقف الدولة والقانون.

استحقاقات «اليوم التالي» لوقف النار في لبنان ليست بسيطة، لكن القوى السياسية على اختلافها مدعوة للارتفاع إلى مستوى التحدي. لا بدَّ من إعادة ترميم الجسورِ بين اللبنانيين رغم مراراتِ السنوات السابقة. لا بدَّ من الاعتراف المتبادل وتفهّم الهواجس والعودة إلى سياسات تناسب طبيعة لبنان. لا قهر ولا ثأر ولا تحجيم مكونات ولا تهميش مكونات. لا يحق للبنانيين إضاعة اليوم التالي لوقف النار، كما أضاعوا اليوم التالي في مناسبات كثيرة.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لبنان و«اليوم التالي» لبنان و«اليوم التالي»



GMT 09:03 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

شالوم ظريف والمصالحة

GMT 09:02 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

مسرح القيامة

GMT 09:00 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

لماذا توثيق «الصحوة» ضرورة وليس ترَفاً!؟

GMT 08:59 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

جهود هوكستين: إنقاذ لبنان أم تعويم «حزب الله»؟

GMT 08:57 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

الوجدان... ليست له قطع غيار

GMT 08:55 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

«فيروز».. عيونُنا إليكِ ترحلُ كلَّ يوم

GMT 08:54 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

ذكرى شهداء الروضة!

GMT 08:53 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

الشريك المخالف

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف
  مصر اليوم - دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف

GMT 11:07 2020 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

سعر الذهب في مصر اليوم الجمعة 24 كانون الثاني يناير 2020

GMT 00:28 2019 الجمعة ,06 كانون الأول / ديسمبر

خالد النبوي يكشف كواليس تدريباته على معارك «ممالك النار»

GMT 14:08 2019 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد برج"الحوت" في كانون الأول 2019

GMT 00:09 2019 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

ارتدي جاكيت الفرو على طريقة النجمات

GMT 20:08 2019 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة تصدر 9 قرارات تهم المصريين "إجازات وتعويضات"

GMT 08:01 2019 الأربعاء ,09 تشرين الأول / أكتوبر

عرض فيلم "الفلوس" لتامر حسني أول تشرين الثاني

GMT 08:44 2019 الإثنين ,16 أيلول / سبتمبر

إنجي علي تفاجئ فنانا شهيرا بـ قُبلة أمام زوجته
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon