بقلم - غسان شربل
ما أصعبَ الكتابةَ عن الزلزال! يستحيل أن ترتقي اللغةُ إلى حجم الفاجعة. كلُّ كلامٍ ناقص. كلُّ كلام قليل. لا يستطيع أحدٌ توفير الأزهار لنهر الجنازات المتدفّق. لهذا السيل من المغدورين.
ما أقسى رائحةَ الغدر حين تفوح! إذا كان غدر الأفراد موجعاً، فكيف حين ترتكبه الأرضُ نفسها؟ الأرض التي نزعم أنَّها أمُّنا. ولحمُنا. وجذورنا. وتراثنا. الأرض التي لا يملّ الشعراءُ من التغني بها. ولا يمل الجنود من الموت دفاعاً عنها. والتي نرتضي ظلم العيش فيها خوفاً من رياح الغربة.
رائحة الغدر. فجع الذين اعتقدوا أنَّ السقوف تحمي. وأكل الرعب من تعلَّقوا بالجدران بذريعة أنَّها ترد. صحيح أنَّ القسوة ليست زائراً غريباً في هذا الجزء المؤلم من العالم. وأنَّ الموت يأتي أحياناً أو دائماً ويصطاد ما يصطاد. بطائرة أو مسيّرة أو قذيفة مدفع. لكن الصحيح أيضاً أنَّ القتل هذه المرة كان أوسعَ، وترك فوق الأنقاض وتحتها حقولاً من الجثث.
مدنٌ وبلداتٌ دهمَها زائرُ الفجر في إطلالة خاطفة. كأنَّ الأرضَ شهقت لأنَّها تعرف صرامة القاتل. فقدت الأرض رصانتَها وانزلقت. تآمرت السقوفُ مع الجدران. كأنَّ سكيناً هائلاً قطع في لحظات عروق مدن وقرى وعروق البيوت وساكنيها.
ركامٌ. ركامٌ. ركام.
ركام أحجار. وركام أعمار. كانت زيارته عجلى ورهيبة. لكنه بعد الذهاب راح يوفد رسائله هزات ارتدادية كمجرم عريق يتباهى بهول ما ارتكب. عبرنا صدمة الساعة الأولى على رجاء أن تكون الخسائر متواضعة أو معقولة. ثم هاجمتنا المشاهد وتلاحقت. اشتعلت بورصة القتل. لا تصدق الرقم الحالي. بعد قليل سيرتفع. القافلة طويلة ولن يتأخر كثيرون في الانضمام. وفي المساء ينعقد اجتماع التحرير. لا سؤال عن هوية الموضوع الذي سيحتل الصفحة الأولى. ولا نقاش حول الحدث الذي ستنقله الصورة. تولى الزلزال نفسه رسم الصفحة الأولى. فرض حضوره وفرض جريمته على الشاشات والصفحات. لكن حذارِ أن تضع الرقم في العنوان العريض. بورصة القتل مشتعلة، وتعمل في الليل بكامل طاقتها، والأرقام تصعد من دون توقف وتتخطى ما سبق.
استولى الزلزال على الوقت. شعر أبناء المناطق المحيطة بالوقوع في دوامته. توهَّموا أنَّهم يستمعون إلى الأنين المتواصل لمن أقاموا تحت ركام بيوتهم بعدما أقاموا فيها. صوت أنين مكسور يسافر في الهواء. ورحنا نتابع مشهدَ يد خارجة من تحت الحجارة تبحث عمن يمسك بها ويخرجها قبل فوات الأوان. ورحنا نبتهج بإخراج طفلة من بين أشداق الجحيم، ونحاول أن ننسى أن عائلتها لن تتمكَّن من اللحاق بها لأنَّها غرقت في نوم لا يقظة بعده. وابتهجنا بإخراج مسنّ وزوجته من تحت الركام، ثم لمحنا تفجعَهما على أحفاد لن تتسنى لهم المغادرة.
تحول الزلزال الذي ضرب أجزاءً من تركيا وسوريا نكبة بلا حدود. شاهدنا بإعجاب شجاعة من توافدوا بحثاً عن أحياء أو لانتشال الجثث. إنَّها شجاعة من يلقون بأنفسهم في أصعب الظروف لإنقاذ إنسان من براثن الموت المقترب منه. وفي النكبة لا بدَّ للعالم من أن يسقط التحفظات والملاحظات التي يتيحها زمن لا نكبة فيه. والحقيقة هي أنَّ العالم صُدم وذُهل، ثم تحرك لإرسال المساعدات وفرق الإنقاذ. وفي غمرة مشاهد الموت كم يشتهي المرء لو أنَّ التضامن الإنساني لا يحتاج إلى زلزال كي يعبّر عن نفسه!
ما أصعبَ عبارةَ أن عدد الضحايا مرشح للارتفاع! أتخيل مشاعر من ينتظرون قريباً أو بعيداً جلاء مصير أحبائهم المحاصرين. وما أصعبَ أن يُكتب أنَّ أصوات الأنين تراجعت وأن ما كُتب قد كُتب! أتخيل وقع عبارة انحسار الأمل بالعثور على ناجين. أشمُّ رائحة الدموع التي ستنهمر من عيون ذويهم وأقاربهم.
ما أصعبَ الزلزال! ماتت أحياء بكاملها. تناثرت أبنية وشرفات. تبخَّرت بيوت سكنها الأحفاد بعد الأجداد. ذهبت القرى وعلامات القرى. وأزاح علم الموت سائر الأعلام. جاء الزلزال وذهب. ترك وراءه جيشاً من الجثث التي ستقيم في الأرض التي خانت أصحابها. خلّف أيضاً قافلة هائلة من الجرحى والمصدومين وأبناء العائلات الممزقة. وترك ملايين المتضررين. سنعيش طويلاً مع حكايات الجروح في سوريا وتركيا. سنعيش طويلاً مع الحكايات الحزينة.
الوقت ليس ملائماً للحديث عن الحاجة إلى استقرار راسخ وحكومات تقرن الكفاءةَ بالنزاهة. وليس ملائماً أيضاً للتذكير بأنَّ دولنا تحتاج إلى المستشفيات والأطباء والمسعفين أكثرَ بكثير من حاجتها إلى المسيرات والمدافع والمسلحين. حكومات تدرك هشاشة الأحياء العشوائية التي يقطنها الفقراء هرباً من الثلج والبرد والرياح. حكومات تدرك هولَ الجريمة التي يرتكبها الفاسدون حين يتلاعبون بشروط البناء طمعاً في نهب مزيد من الأموال. ما أصعبَ العيش بلا مؤسسات تستحق التسمية!
كنت في بغداد. ولهذه المدينة رنَّةٌ في التاريخ وفي قلبي. أزورها سائلاً عما إذا كانت لا تزال تعيش تحت وطأة الهزات الارتدادية التي أنجبها زلزال اقتلاع نظام صدام حسين على يد الجيش الأميركي. أمضيت ساعتين أحاور رئيس الوزراء محمد شياع السوداني. سمعته يقول إنَّ الفساد «أخطر من كورونا» و«أخطر من داعش». وسمعته متمسكاً بدور صناعة الاستقرار الإقليمي الذي بدأته حكومة مصطفى الكاظمي وعلى قاعدة أنَّ مصالح العراق هي البوصلة. سمعته يشدّد على الإصلاح وبناء المؤسسات واللحاق بركب التطور العلمي والتكنولوجي.
كان لا بدَّ من جولة صغيرة في بغداد. ولا بدَّ من تأدية التحية لدجلة. تعبر الزلازل السياسية والأمنية ويبقى معتصماً ببهائه. وقبل النوم انتابني سؤالٌ: هل فشلت التركيبة السياسية التي ولدت غداة سقوط صدام؟ هل يسمح حلفاء السوداني لبرنامجه بالمرور؟ نمتُ وحين أفقت كان زائرُ الليل قد سدَّد ضربتَه في تركيا وسوريا. ذهبت إلى إقليم كردستان جار الزلزالين، المتمرس بالإقامة على خط الزلازل.