توقيت القاهرة المحلي 19:12:00 آخر تحديث
  مصر اليوم -

بصمات الأيام الأوكرانية

  مصر اليوم -

بصمات الأيام الأوكرانية

بقلم - غسان شربل

استولت الأيام الأوكرانية على أيامنا. كأنَّ العالمَ الجديدَ يُولد هناك. من الدم الأوكراني والدم الروسي وبكاء البيوت المحترقة، وركام القانون الدولي وأشباح الرعب النووي. عالمٌ شائكٌ ومقلقٌ ومفتوح على كل الأخطار. على الألماني أن يتذوَّقَ النوم على أطراف الصقيع. على البريطاني أن يتعلَّمَ التواضع. على الفرنسي أن يقتصدَ في إنارة المتاحف والمنازل. على المواطن البعيد التدرب على مائدة أقل وخبز أصعب. وعلى الحكومات أن تتحسَّسَ ترساناتِها وتوفّر الصواريخَ والمسيرات لجنرالاتها.
نحن الآن في أيام بالغة الخطورة. لا غموض حول نتائج الاستفتاءات التي شهدتها المناطق الأوكرانية «الانفصالية». واضح أنَّ السكانَ سيقترعون لمصلحة الاستقالة من الخريطة الأوكرانية للالتحاق بروسيا. إجراء الاستفتاء في ظلّ الوجودِ العسكري الروسي لا يترك للغرب أيَّ فرصة لقبول نتائجه. وموسكو مفرطةٌ في الوضوح والحزم. بعد صدور النتائج ستعتبر الأقاليمُ التائهة جزءاً من ترابها، ولن تتردَّدَ في استخدام كامل ترسانتِها إذا تعرَّضت الأرضُ الروسية للاعتداء.
تتصرَّف روسيا وكأنَّ ما كُتب قد كتب. وأنَّ على العالم أن يسلّمَ بالحقائق الجديدة. وأنَّ سيدَ الكرملين لا يملك رفاهيةَ التراجع عما أقدم عليه. اتَّخذت الأزمةُ بعداً مخيفاً حين مُني الجيش الروسي بانتكاسات مفاجئة تركت جروحاً في صورة بلاده وزعيمها. وسببُ الجروح معلن. إنَّه الأسلحة الأطلسية والمعلومات الأميركية التي أتاحت للجيش الأوكراني أن يرفعَ علمَ بلاده فوق الدبابات الروسية المتروكة في أرض المعركة.
أمام المشاهد المؤلمة كان على فلاديمير بوتين أن يتَّخذَ قراراً صعباً. إمَّا خفض الأضرار والبحث عن مخرج، أو الذهاب أبعد وجعل الأزمة أشدَّ خطورة على أوكرانيا والعالم وروسيا أيضاً.
اعتمد بوتين الخيار الثاني. الأول لم يكن مطروحاً. روسيا لا يحكمها إلا رجلٌ قوي. في أزمة الصواريخ الكوبية لم يغفر جنرالاتُ الجيش والحزب لنيكيتا خروشوف أنَّه أبدى مرونة في مواجهة جون كينيدي. صادروا منه الأختام ودفعوه إلى التقاعد والوحشة. روسيا تحتاج دائماً إلى قوي. لهذا لم تحب غورباتشوف «الضعيف». ولم تحتضن يلتسين «المترنح». أمام الخسائر اتَّخذ بوتين قرار المقامرة بكامل رصيده. أعلن التعبئةَ الجزئية، واستدعى مئات آلاف الجنود إلى المعركة. لهجةُ الكرملين توحي بالاندفاع في حرب مقدسة شبيهة بالحرب الوطنية الكبرى التي خاضها ستالين. حرب لا مجال فيها للتراجع أو الخسارة. لهذا تكرَّر التلويح بالأسلحة النووية أو التذكير بوطأتها. ارتفاع شعبية بوتين لا يلغي مشهد طوابير الروس الذين يحاولون الفرار إلى الدول المجاورة. لا يريدون أن يكونوا وقوداً في «الحرب المقدسة».
أخطر الأزمات هي تلك التي تطلب فيها من المنخرطين بالحريق أن يقدموا ما لا قدرةَ لهم على تقديمه. بعد أيامٍ ومع إعلان المناطق الانفصالية الأوكرانية جزءاً لا يتجزأ من روسيا يقفل بوتين طريق العودة. لن يكونَ قادراً على التراجع. يصعب الاعتقاد أيضاً أنَّ فولوديمير زيلينسكي سيكون مستعداً للتوقيع على «الطلاق» مع جزء من خريطة بلاده. سيكون من الصعب جداً على أوروبا التسليم بعودة القارة إلى مشاهد تغيير الخرائط بالقوة. وسيكون من الصعب أيضاً على أميركا القبول بأن تحقّق انتفاضة بوتين على عالم القطب الواحد، مكاسبَ تغريه بمواصلة انتفاضته في وقت لاحق.
إنَّها حفنة أيام تنذر بتغيير العالم بأسره. إذا كان يحق لروسيا أن تُلحقَ مناطق أوكرانية بخريطتها، فكيف لا يحق للصين استعادة تايوان وهي جزء من لحمها أصلاً؟ وهل يمكن التسليم بحق القوي في استخدام القوة، بذريعة درء أخطار يزعم أنَّها تحدق بأمنه؟ وماذا عن النزاعات الحدودية هنا وهناك؟ وعن الدول المجروحة المتبرمة بحدودها الحالية بفعل ذاكرتها الإمبراطورية؟ وفي منطقتنا ماذا ستستنتج إيران وتركيا وإسرائيل؟
ثمة من يتخوَّف أنَّنا في الطريق إلى الفصول الأكثر هولاً في الحريق الأوكراني. لهذا يسري القلق في عروق العالم. هزَّت الأزمة عصبين رئيسيين فيما كان يُدعى «القرية الكونية» وهما الطاقة والغذاء. لا يستطيع أحدٌ الادعاء أنَّ هذه الأزمة لا تعنيه. العالم القديم يتصدَّع والعالم الجديد يولد من مخاض دموي مفتوح.
دفعت العاصفةُ الأوكرانية دولاً كبرى إلى إعادة النظر في سياسات ومواقف وحسابات. الذين اعتقدوا أنَّ منطقة الخليج العربي تراجعت أهميتُها، ويمكن الابتعاد عنها أدركوا خطأ حساباتهم. هذا يصدق على إدارة بايدن وحكومات غربية أخرى. زيارة المستشار الألماني أولاف شولتس إلى السعودية والإمارات وقطر دليلٌ واضحٌ على هذه اليقظة.
في العاصفة الأوكرانية تتصرَّف السعودية بدرجة عالية من المسؤولية الدولية. إنَّها لاعبٌ كبير في مجال الطاقة، لكن ترسانة العلاقات الدولية والشراكات التي نسجها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في السنوات الأخيرة ترشحها لدور أكبر. القدرة على التحدّث إلى الجميع على رغم حدة الاصطفافات. واتخاذ القرارات في ضوء المصالح، وفي ضوء المسؤولية الدولية. التمهّل في قطع الالتزامات والوفاء بها بعد قطعها. في هذا السياق يمكن فهم الوساطة التي قادها محمد بن سلمان وأدَّت إلى الإفراج عن أسرى من جنسيات مختلفة. خطوة كانت موضعَ ثناء في موسكو وكييف وواشنطن ولندن وعواصم أخرى.
لا مبالغة في القول إنَّ الأيامَ الأوكرانية ستغيَّر العالم. بعد ضمّ مناطق من أوكرانيا إلى روسيا يصعب توقّع لقاء بوتين وزيلينسكي الذي يسعى إليه إردوغان. عودة بلاد بوتين إلى البيت الأوروبي أو الغربي لا يمكن أن تكون قريبة. دفع روسيا إلى مصير آسيوي أو مستقبل آسيوي ليس حدثاً بسيطاً على الإطلاق. الأيام الأوكرانية قد تفتح الباب لإلحاق إصابات مؤلمة بدور أوروبا وتماسكها. لهذا يتزايد الحديث عن الصين التي بخلت على بوتين، في سمرقند كما في نيويورك، بمفردات التأييد التي كان يشتهي سماعها. يحتاج العالم إلى من يخرجه من الحريق الأوكراني. لا يمكن أن يمشيَ إلى وقت طويل على الحبل الأوكراني المشدود من دون أن يقعَ في النار. من يستطيع طمأنةَ بوتين الخائف؟ من يستطيع وقفَ بوتين المخيف؟ بعد أيام تتغير خريطة أوكرانيا. بعد أيام تتغيَّر خريطة العالم. طُويت صفحةُ ما بعد جدار برلين. بعد أيام ستعيد ولادة «الجدار الأوكراني» صياغة التحالفات والاصطفافات.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بصمات الأيام الأوكرانية بصمات الأيام الأوكرانية



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء

GMT 18:05 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

خالد جلال يُعلن قائمة البنك الأهلي لمواجهة انبي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon