توقيت القاهرة المحلي 00:09:42 آخر تحديث
  مصر اليوم -

بصمات الأيام الأوكرانية

  مصر اليوم -

بصمات الأيام الأوكرانية

بقلم - غسان شربل

استولت الأيام الأوكرانية على أيامنا. كأنَّ العالمَ الجديدَ يُولد هناك. من الدم الأوكراني والدم الروسي وبكاء البيوت المحترقة، وركام القانون الدولي وأشباح الرعب النووي. عالمٌ شائكٌ ومقلقٌ ومفتوح على كل الأخطار. على الألماني أن يتذوَّقَ النوم على أطراف الصقيع. على البريطاني أن يتعلَّمَ التواضع. على الفرنسي أن يقتصدَ في إنارة المتاحف والمنازل. على المواطن البعيد التدرب على مائدة أقل وخبز أصعب. وعلى الحكومات أن تتحسَّسَ ترساناتِها وتوفّر الصواريخَ والمسيرات لجنرالاتها.
نحن الآن في أيام بالغة الخطورة. لا غموض حول نتائج الاستفتاءات التي شهدتها المناطق الأوكرانية «الانفصالية». واضح أنَّ السكانَ سيقترعون لمصلحة الاستقالة من الخريطة الأوكرانية للالتحاق بروسيا. إجراء الاستفتاء في ظلّ الوجودِ العسكري الروسي لا يترك للغرب أيَّ فرصة لقبول نتائجه. وموسكو مفرطةٌ في الوضوح والحزم. بعد صدور النتائج ستعتبر الأقاليمُ التائهة جزءاً من ترابها، ولن تتردَّدَ في استخدام كامل ترسانتِها إذا تعرَّضت الأرضُ الروسية للاعتداء.
تتصرَّف روسيا وكأنَّ ما كُتب قد كتب. وأنَّ على العالم أن يسلّمَ بالحقائق الجديدة. وأنَّ سيدَ الكرملين لا يملك رفاهيةَ التراجع عما أقدم عليه. اتَّخذت الأزمةُ بعداً مخيفاً حين مُني الجيش الروسي بانتكاسات مفاجئة تركت جروحاً في صورة بلاده وزعيمها. وسببُ الجروح معلن. إنَّه الأسلحة الأطلسية والمعلومات الأميركية التي أتاحت للجيش الأوكراني أن يرفعَ علمَ بلاده فوق الدبابات الروسية المتروكة في أرض المعركة.
أمام المشاهد المؤلمة كان على فلاديمير بوتين أن يتَّخذَ قراراً صعباً. إمَّا خفض الأضرار والبحث عن مخرج، أو الذهاب أبعد وجعل الأزمة أشدَّ خطورة على أوكرانيا والعالم وروسيا أيضاً.
اعتمد بوتين الخيار الثاني. الأول لم يكن مطروحاً. روسيا لا يحكمها إلا رجلٌ قوي. في أزمة الصواريخ الكوبية لم يغفر جنرالاتُ الجيش والحزب لنيكيتا خروشوف أنَّه أبدى مرونة في مواجهة جون كينيدي. صادروا منه الأختام ودفعوه إلى التقاعد والوحشة. روسيا تحتاج دائماً إلى قوي. لهذا لم تحب غورباتشوف «الضعيف». ولم تحتضن يلتسين «المترنح». أمام الخسائر اتَّخذ بوتين قرار المقامرة بكامل رصيده. أعلن التعبئةَ الجزئية، واستدعى مئات آلاف الجنود إلى المعركة. لهجةُ الكرملين توحي بالاندفاع في حرب مقدسة شبيهة بالحرب الوطنية الكبرى التي خاضها ستالين. حرب لا مجال فيها للتراجع أو الخسارة. لهذا تكرَّر التلويح بالأسلحة النووية أو التذكير بوطأتها. ارتفاع شعبية بوتين لا يلغي مشهد طوابير الروس الذين يحاولون الفرار إلى الدول المجاورة. لا يريدون أن يكونوا وقوداً في «الحرب المقدسة».
أخطر الأزمات هي تلك التي تطلب فيها من المنخرطين بالحريق أن يقدموا ما لا قدرةَ لهم على تقديمه. بعد أيامٍ ومع إعلان المناطق الانفصالية الأوكرانية جزءاً لا يتجزأ من روسيا يقفل بوتين طريق العودة. لن يكونَ قادراً على التراجع. يصعب الاعتقاد أيضاً أنَّ فولوديمير زيلينسكي سيكون مستعداً للتوقيع على «الطلاق» مع جزء من خريطة بلاده. سيكون من الصعب جداً على أوروبا التسليم بعودة القارة إلى مشاهد تغيير الخرائط بالقوة. وسيكون من الصعب أيضاً على أميركا القبول بأن تحقّق انتفاضة بوتين على عالم القطب الواحد، مكاسبَ تغريه بمواصلة انتفاضته في وقت لاحق.
إنَّها حفنة أيام تنذر بتغيير العالم بأسره. إذا كان يحق لروسيا أن تُلحقَ مناطق أوكرانية بخريطتها، فكيف لا يحق للصين استعادة تايوان وهي جزء من لحمها أصلاً؟ وهل يمكن التسليم بحق القوي في استخدام القوة، بذريعة درء أخطار يزعم أنَّها تحدق بأمنه؟ وماذا عن النزاعات الحدودية هنا وهناك؟ وعن الدول المجروحة المتبرمة بحدودها الحالية بفعل ذاكرتها الإمبراطورية؟ وفي منطقتنا ماذا ستستنتج إيران وتركيا وإسرائيل؟
ثمة من يتخوَّف أنَّنا في الطريق إلى الفصول الأكثر هولاً في الحريق الأوكراني. لهذا يسري القلق في عروق العالم. هزَّت الأزمة عصبين رئيسيين فيما كان يُدعى «القرية الكونية» وهما الطاقة والغذاء. لا يستطيع أحدٌ الادعاء أنَّ هذه الأزمة لا تعنيه. العالم القديم يتصدَّع والعالم الجديد يولد من مخاض دموي مفتوح.
دفعت العاصفةُ الأوكرانية دولاً كبرى إلى إعادة النظر في سياسات ومواقف وحسابات. الذين اعتقدوا أنَّ منطقة الخليج العربي تراجعت أهميتُها، ويمكن الابتعاد عنها أدركوا خطأ حساباتهم. هذا يصدق على إدارة بايدن وحكومات غربية أخرى. زيارة المستشار الألماني أولاف شولتس إلى السعودية والإمارات وقطر دليلٌ واضحٌ على هذه اليقظة.
في العاصفة الأوكرانية تتصرَّف السعودية بدرجة عالية من المسؤولية الدولية. إنَّها لاعبٌ كبير في مجال الطاقة، لكن ترسانة العلاقات الدولية والشراكات التي نسجها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في السنوات الأخيرة ترشحها لدور أكبر. القدرة على التحدّث إلى الجميع على رغم حدة الاصطفافات. واتخاذ القرارات في ضوء المصالح، وفي ضوء المسؤولية الدولية. التمهّل في قطع الالتزامات والوفاء بها بعد قطعها. في هذا السياق يمكن فهم الوساطة التي قادها محمد بن سلمان وأدَّت إلى الإفراج عن أسرى من جنسيات مختلفة. خطوة كانت موضعَ ثناء في موسكو وكييف وواشنطن ولندن وعواصم أخرى.
لا مبالغة في القول إنَّ الأيامَ الأوكرانية ستغيَّر العالم. بعد ضمّ مناطق من أوكرانيا إلى روسيا يصعب توقّع لقاء بوتين وزيلينسكي الذي يسعى إليه إردوغان. عودة بلاد بوتين إلى البيت الأوروبي أو الغربي لا يمكن أن تكون قريبة. دفع روسيا إلى مصير آسيوي أو مستقبل آسيوي ليس حدثاً بسيطاً على الإطلاق. الأيام الأوكرانية قد تفتح الباب لإلحاق إصابات مؤلمة بدور أوروبا وتماسكها. لهذا يتزايد الحديث عن الصين التي بخلت على بوتين، في سمرقند كما في نيويورك، بمفردات التأييد التي كان يشتهي سماعها. يحتاج العالم إلى من يخرجه من الحريق الأوكراني. لا يمكن أن يمشيَ إلى وقت طويل على الحبل الأوكراني المشدود من دون أن يقعَ في النار. من يستطيع طمأنةَ بوتين الخائف؟ من يستطيع وقفَ بوتين المخيف؟ بعد أيام تتغير خريطة أوكرانيا. بعد أيام تتغيَّر خريطة العالم. طُويت صفحةُ ما بعد جدار برلين. بعد أيام ستعيد ولادة «الجدار الأوكراني» صياغة التحالفات والاصطفافات.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بصمات الأيام الأوكرانية بصمات الأيام الأوكرانية



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

ياسمين صبري بإطلالات أنيقة كررت فيها لمساتها الجمالية

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 16:38 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

إطلالات مختلفة تناسب قصيرات القامة من وحي منى زكي
  مصر اليوم - إطلالات مختلفة تناسب قصيرات القامة من وحي منى زكي

GMT 08:13 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

الضوء في الليل يزيد فرص الإصابة بالسكري
  مصر اليوم - الضوء في الليل يزيد فرص الإصابة بالسكري

GMT 23:07 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

أحمد رزق يتعاقد على مسلسل «سيد الناس» رمضان 2025
  مصر اليوم - أحمد رزق يتعاقد على مسلسل «سيد الناس» رمضان 2025

GMT 18:46 2017 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

دار Blancheur تعلن عن عرض مميز لأزياء المحجبات في لندن

GMT 10:03 2020 السبت ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

طريقة عمل الفاصوليا البيضاء

GMT 04:45 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الأمن المصري يكشف حقيقة اختطاف فتاة في منطقة "المعادي"

GMT 10:07 2020 السبت ,10 تشرين الأول / أكتوبر

الصحة: تسجيل 106 إصابات جديدة بـ كورونا و12 وفاة

GMT 11:56 2020 الخميس ,13 آب / أغسطس

7 أشكال غريبة لرفوف الكتب تعرفي عليها

GMT 17:04 2020 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

مستشار الرئاسة التركية ياسين أقطاي يوجه رسالة إلى مصر

GMT 08:00 2019 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سيات أتيكا 2020 في مصر رسميًا

GMT 03:29 2019 الثلاثاء ,25 حزيران / يونيو

داليا مصطفى تتعرَّض لعملية نصب وتُحذِّر الفنانين

GMT 08:30 2019 الأحد ,23 حزيران / يونيو

تصميمات "الفيونكة" تزيّن مجوهرات العروس في 2019

GMT 17:44 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

بلاغ ضد هالة صدقي بسبب فيديو "حثالة المجتمع"
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon