توقيت القاهرة المحلي 19:22:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

إيران الثورة في عالم آخر

  مصر اليوم -

إيران الثورة في عالم آخر

بقلم - غسان شربل

ما يجري في إيران يعنيها ويعني المنطقة والعالم. صحيح أنَّ أمرَ النظام يعود للشعب الإيراني وحدَه، لكنَّ الصحيحَ أيضاً هو أنَّ إيرانَ منخرطة في توترات دولية، ومنغمسة في خرائط عدة في الإقليم. ما يريده أهلُ المنطقة هو إيران الدولة التي تلتزم الحدودَ والقوانينَ المعمولَ بها والقواعدَ المتعارفَ عليها في التعامل. لهذا تحظَى الاحتجاجاتُ الإيرانية بمتابعة واسعة؛ خصوصاً بعدما بدت أنَّها أكثرُ من غضبٍ عابرٍ، وأعمقُ من أن يؤدي الرصاصُ إلى اقتلاع جذورها. تطرح الاحتجاجات على الثورة الإيرانية سؤالاً مهماً وصعباً، هو؛ إلى متى ستتمسَّك بقرارها عدم الاعتراف بأنَّ العالم قد تغيّر؟
وُلدت الثورة الإيرانية في عالم، وهَا هي تعيش في آخر. تغيَّر العالم كثيراً في العقود الأربعة الماضية. تغيَّر إلى حدٍّ لم يعدْ معه باستطاعة أحدٍ أن يعيشَ بمنأى عن التبدلات الكبرى التي حدثت. حين انتصرت ثورة الخميني كانَ العالم يعيش في عهدة المعسكرين، وكانت الثورة تفاخرُ بأنَّها وُلدت من خارج القاموسين المتنافسين. ومن عادة الثوراتِ أن تتوهَّمَ لدى انتصارِها أنَّها جاءت لتبقى إلى الأبد. وأنَّها ستغيّر العالم. وأنَّها عثرت على حلول فشلت الثوراتُ السابقة في العثور عليها. وفي زهو الانتصار تختلطُ الأحلامُ بالأوهام.
لا تستطيع الثورة الإيرانية الاستمرارَ في تجاهل التغييرات التي ضربت المشهد الدولي في العقود الماضية. التحولات التي حصلت كانت واسعة وهائلة ولا يمكن أبداً اعتبارها شأناً يخصُّ الآخرين فقط. أميركا اليوم هي غير أميركا التي رقصت الثورة الإيرانية ابتهاجاً حين حولت دبلوماسييها في طهران رهائنَ. لا يزال «الشيطان الأكبر» يتربَّع على مقعد الاقتصادِ الأول في العالم. الاتحاد السوفياتي لم يعد موجوداً. لم يغادر الخريطة بفعل ضربة نووية أو حرب عالمية. غادرَها بعدما أُنهك بفعل سباق التسلح والفجوة التكنولوجية وجمود النموذج والعجز عن الاحتفاظ بعلاقة عميقة مع الأجيال التي وُلدت في ظل الثورة. غادر لأنَّه لم ينجح في إحداث التحسن اللازم في حياة الناس والاستماع إلى تطلعاتهم. فتوحات الخارج لم تحصّنه ضد استحقاقات الداخل.
عندما انتصرت الثورة الإيرانية كانت الصينُ تقف عند منعطف حاسم. لم تعد أفكار ماو تسي تونغ قادرة على حماية نظام الثورة. لم تعد قادرة على حل المشكلات والتصالح مع الوقائع الاقتصادية والمستجدات. اصطدمت الثورة بالجدار، ولم يكن أمامها إلا أن تتغيّر. احتفظ ورثة ماو بالحزب كآلة لضمان الاستقرار، لكنَّهم خرقوا القواعد التي كانت تدرج في باب المحرمات. دخلت مفردات الازدهار والتقدم والاستثمار والتجارة إلى القاموس. كان لا بد من تغيير في الذهنيات والأساليب معاً. ونجح الورثة في إنقاذ الثورة عن طريق اعتماد منطق الدولة. جاء الإنقاذُ الحقيقي حين تمَّ إخراج مئات الملايين من الفقر المدقع، وحين التحقت البلاد بالثورات العلمية والتكنولوجية.
لا يستطيع أحدٌ في العالم تجاهل ثمارِ الثورة التكنولوجية وثورة الاتصالات. أدخلت الإنترنت تغييراً هائلاً على علاقة الفرد بالعالم. أتاحت الوصولَ إلى المعلومات التي كان الرقيب يحاول إخفاءَها عن الناس. وجاء الهاتف الذكي وهو أكبر معارض أو شاهد في التاريخ. بات باستطاعة أي مواطن أن يقرأ العالم عبر هذا الجهاز الصغير النائم في جيبه. يصوّر ويوثّق ويرسل. صار كل مواطن صحافياً يلاحظ ويسجّل ويجمع المعلومات ويبلور موقفه في شؤون الداخل والخارج.
جعل الهاتف الذكي حاملَه جزءاً من عالم مترابط بغض النظر عن الحدود الدولية وصرامة الرقابات. قال لحامله إنَّه صاحب حقوقٍ بديهية من حقّه المطالبة بها. وفي هذا السياق، تشبه الشابة الإيرانية الشابة المقيمة في دولة ثانية أو قارة أخرى. بعث الهاتف أيضاً برسالة مفادها أنَّ النماذج المفروضة لا تصلح لكل زمان ومكان. وأنَّ النماذج ليست معفاة من الاستماع إلى ما يحمله الوقت من تغييرات ومقاربات وأساليب عيش جديدة.
حاولت الثورة الإيرانية تحصينَ نفسِها ضد التغييرات الكبرى. أبقت خطَّ التماس مشتعلاً مع الغرب واعتبرت كل مطالبة بالتغيير، مهما كان محدوداً، جزءاً من مؤامرة خارجية تهدف إلى اقتلاع أعمدة النظام وركائز استمراره. رأت أنَّ من حقها أن تأخذَ من التطور التكنولوجي فقط ما يعزز ترسانتها وقبضتها وسياسة الهجوم في الإقليم.
ترجمت الثورة الإيرانية شعارَ «تصدير الثورة» إلى سياسات نجحت في اختراق الخرائط في لبنان وسوريا والعراق واليمن. لكنَّها لم تنجح في أن تقدّمَ في الخرائط التي اخترقتها نموذج استقرار أو ازدهار. بدت الاختراقاتُ باعتراف مسؤولين فيها أشبهَ بإجراءات الحماية للنظام ودوره، ولو تمَّ ذلك على حساب أمن الخرائط المخترقة وازدهارها. وسابقت إيران الثورة الوقت في الملفين النووي والصاروخي، وكأنَّها تبحث عن بوليصة تأمين لحماية الدور الجديد في الإقليم.
تصرفت الثورة الإيرانية كأنَّ المشكلة في الخارج ومعه، وأنَّ الداخلَ مضمون. تعاملت مع الاحتجاجات السابقة بشأن نتائج الانتخابات أو القضايا المعيشية وكأنَّها مجردُ محاولاتٍ يقوم بها الخارج لزعزعة الاستقرار. رفضت التوقفَ عند تململ الأجيالِ الجديدة وتطلّعها إلى العيش الأفضل ومطالبتها بإعطاء الأولوية لتحسين مستوى حياة الناس، على حساب الإنفاق على الجيوش الصغيرة الحليفة في الخارج.
إصرارُ إيران التي تنزلق حالياً نحو عزلة دولية، أو غربية على الأقل، على عدم الاعتراف بأنَّ العالم قد تغيَّر جعل الاحتجاجات التي انطلقت شرارتُها من مقتل الشابة مهسا أميني ترتدي طابعاً أعمقَ من الاحتجاجات السابقة. تأكد ذلك من الشعارات التي أطلقها المحتجون، على رغم معرفتهم بالثمن الباهظ الذي يترتَّب على إطلاقها. انتشارُ الاحتجاجات في مدن متباعدة ورفع شعار «المرأة - الحياة - الحرية» وعدم الخوف من الرصاص مهما كان قاتلاً، أعطى الانطباع بأنَّ السلطاتِ الإيرانية تواجه، في عهد الرئيس إبراهيم رئيسي بالذات، تحدياً غير مسبوق.
واضح أنَّ العلاجاتِ السابقة لم تعد مجدية، وأنَّ القمعَ الواسع يؤسس لدورات أخرى من الاحتجاجات. ربما لهذا السبب وافقت السلطاتُ على إلغاء «شرطة الأخلاق» تحت ضغطِ الشارع، وأبدت استعدادَها لمناقشة موضوع الحجاب. من التسرع اعتبار ما يحدث دليلاً قاطعاً على تغيير وشيك أو قريب. لكن الأكيد أنَّ الاحتجاجات بعثت برسالة قاسية، مفادها أن لا خيار أمام حراس الثورة الإيرانية، غير الاعتراف بأنَّ عالم اليوم لا يشبه العالم الذي وُلدت فيه الثورة. وجوهر الرسالة أنَّ الوقتَ لا يرحم، تتغيَّر الثورة على أيدي جيل جديد، يقيم تحت عباءتِها، أو تتغيَّر تحت وطأة الشارع، مهما كان المخاضُ طويلاً ومكلفاً.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إيران الثورة في عالم آخر إيران الثورة في عالم آخر



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل

GMT 13:13 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين مصر وموانئ دبي العالمية لتطوير منطقة حرة عامة

GMT 19:17 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

التشكيل الرسمي لمباراة إنبي والبنك الأهلي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon