توقيت القاهرة المحلي 19:22:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أكلة لحوم الدول

  مصر اليوم -

أكلة لحوم الدول

بقلم - غسان شربل

الأسابيع الذهبية ذهبت. لا تدومُ الأعراسُ طويلاً. كانت جميلةً ومثيرة. انقسمنا وتجادلنا وأصبنا وأخطأنا. كانت الحروب ناصعةً. فرق لامعة لا ميليشيات. تتبادل الضربات بالساحرة المستديرة لا بالمسيرات. حروبٌ بلا نعوش وجيوش. وفتيانٌ يسبحون في الأضواءِ ويحصدون الأوسمةَ بلا قطرة دم. روحٌ رياضيةٌ في عالم موحش ومتوحش. شكراً لهم. شغلنا ميسي عن بوتين، ومبابي عن زيلينسكي، ورونالدو عن بايدن، و«أسود الأطلس» عن كيم جونغ أون. شغلنا المحللون الرياضيون عن الموجة الجديدة من «كورونا» وعن التكهناتِ باقتراب الحربِ العالمية الثالثة. لكنَّ الإجازةَ انتهت ولا بدَّ من العودة إلى العالم الكئيب والمقالات الكئيبة.
أحياناً يستولي الخبر على قارئه. وهذا ما حصل معي مذ قرأت نبأ وفاةِ «آكل لحوم البشر الياباني» إيسي ساغاوا بعد أكثر من أربعين عاماً على الجريمة التي أكسبته اللقب.
بدأت القصة في باريس. كان طالباً في جامعة السوربون ودعا في 11 يونيو (حزيران) 1981 زميلتَه الهولندية رينيه هارتفلت لتناول العشاءِ في شقته. وخلالَ العشاء، أطلقَ عليها النار ثم اغتصبها وقطعَ أجزاء من جسدها وأكلَ منها على ثلاثة أيام والتقط ما يلزم من الصور. حاول إخفاءَ ما بقيَ من الجثة في غابة، لكنَّ الشرطةَ اكتشفت الأمرَ واعتقلته. وحين أكَّد الخبراءُ أنَّه يعاني اضطراباً ذهنياً أُرسل إلى مركزٍ للأمراض النفسية في فرنسا، ثم إلى مركزٍ مشابه في اليابان، حيث استرجع حريتَه في 1985.
تحوَّل ساغاوا نجماً وأصدر كتباً راجَ بعضُها، لا سيَّما ذاك الذي حمل عنوان «آكل لحوم البشر». حين حقّقت الشرطة الفرنسية معه لم يكذب، واعترف قائلاً إنَّ «أكلَ هذه الفتاة كان تعبيراً عن الحب. أردتُ أن أشعرَ في داخلي بوجود شخصٍ أحبه».
قرأنا كثيراً في الأخبار والروايات عن عشاق موتورين استدرجَهم جمرُ الغرام إلى القتل أو الانتحار. لكنَّ قصةَ ساغاوا مثيرةٌ ومؤلمةٌ ومقززة. عادت إلى بالي قصةُ آكلي لحوم البشر التي كانت تتردَّد وتختلط بالمبالغات.
كانَ علي عبد السلام التريكي وزيراً للخارجية في جزءٍ من عهد معمر القذافي، وكان مبعوثَه إلى أفريقيا وتحوّل خبيراً في شجون قادتِها وممارساتِهم. كنت أسأله في باريس عن ذكرياته مع القذافي حين استرسلَ في الحديث عن مهماته الأفريقية. سألتُه عن أكل لحوم البشر فردَّ بأنَّ التهمة وجهت عملياً إلى بوكاسا إمبراطور أفريقيا الوسطى الذي تردَّد أيضاً أنَّه شاركَ الأسودَ التي اقتناها في أكل لحمِ معارضيه. استبعدَ أن يكونَ عيدي أمين من أكلة لحوم البشر، لكن روى ضاحكاً أنَّه كان ينضمُّ إلى سباق السيارات قبل نقطة الوصول بقليل ليفوز بالموقع الأول. حكى أيضاً كيف انزعج الرئيس الزائيري موبوتو سيسي سيكو من نادلٍ على يختِه فأمرَ برميه للتماسيح فالتهمته. ولفتَ إلى أنَّ موبوتو كانَ يفضل أكلَ دماغِ القرد. وقال إنَّ القذافي كلَّفه ذات يوم بنقل رسالة شفوية إلى رئيس كينيا. وبعد اللقاء، حاولَ وزير خارجية كينيا الاستيلاء على الطائرة الصغيرة التي أقلته عارضاً عليه بطاقة سفر، وأنَّه اضطر إلى اختراع كذبة للنجاة بالطائرة. وشدَّد على أنَّ مشكلةَ أفريقيا لم تكن في أكل لحوم البشر، بل في نهبِ ميزانياتِ الدول ومناجمها وأكل المال العام وإضاعة فرص التنمية والتقدم. وانتهى إلى القول إنَّ المأساة تبدأ حين يعتبر الرئيس أنَّ الخريطة ومن عليها ملكٌ شخصيٌّ له يحق له التصرفُ به من دون رادعٍ أو وازع.
راودني شعورٌ بأنَّ بعضَ المستبدين يفعلون ببلدانِهم ما فعله ساغاوا بصديقته، ويعتبرون التهامَ الأرض ومن عليها تعبيراً عن الحب. تذكَّرت يوم قيل إنَّ بوكاسا أنفق ربعَ ميزانية البلاد الفقيرة على حفلة تتويجه إمبراطوراً بسبب عقدة نابليون التي لازمته. وتذكرت أنَّ القذافي صدَّق مدائحَ زائر «محتال» فقرَّر أن يضيفَ إلى لقبِ «الأخ القائد» لقبَ «ملك ملوك أفريقيا»، وارتبكَ معاونوه في البحث له عن تاج.
جريمة ساغاوا مروعة. لكن قتل فرد، على وحشيتِه، أقلُّ خطورة من قتل بلاد. ويمكن قتلُ الخرائط بأساليبَ مختلفة. أبرز الأساليب تفكيك الدولة واستباحة مؤسساتها وشرذمة الجيشِ واستتباع القضاء وتوظيف صناديق الاقتراع لإنتاج حكوماتٍ تغضُّ الطرفَ عن نهب المال العام وعن الإفلات من العقاب.
ساغاوا قاتل بشع. لكن القاتل الكبير الأخطر هو الفساد حين يتغلغل في المؤسسات والحياة العامة، ويتحول ثقافةً رائجة. الفساد قاتلٌ يسرق الرغيفَ والكتابَ والدواءَ وفرصةَ العمل والطمأنينةَ والأملَ في مستقبل أفضل. الفسادُ عمليةُ اغتيالٍ يومية لحق الناسِ في العيش الكريم. أُنهكت دولٌ كثيرةٌ بفعل تسلل الفاسدين إلى شرايينها، وإقدامهم على المتاجرة غير المشروعة بكل شيء من دون استثناء.
أفكر في لبنان. إقدام المنظومة على التهام أرصدةِ المواطنين جريمة تفوق بآلاف المرات إقدام ساغاوا على التهام أجزاء من صديقته. أنياب أكلةِ المال العام أشد فتكاً من سكاكين ساغاوا، لأنَّها تغتال شعباً وأجيالاً. ينتابني الشعورُ نفسه حين أتابع مثولَ المتهمين بالفساد أمام القضاءِ الجزائري، وبينهم ثلاثة من رؤساء الحكومات وعدد محترم من النواب ودفعة من الجنرالات. وتستوقفني تصريحاتُ مسؤولين وخبراء عراقيين تقول إنَّ حجمَ الأموال التي نُهبت أو أُهدرت في العقدين الماضيين يقترب من 600 مليار دولار. يا للهول. البلد الذي ينامُ على ثرواتٍ مذهلة لم يهزم الفقرَ ويعاني من تراجعِ الخدمات وانقطاع الكهرباء.
أكلَ الفاسدون لحمَ الدولِ ولم يتركوا لبعض شبَّانِها غير الجلوس مع اليأس وجاذبية التطرف، أو محاولة النجاة بالقفز إلى «قوارب الموت». جريمة «آكل لحوم البشر» الياباني أقلُّ بكثيرٍ من عمليات القتلِ الجماعي التي يقوم بها أكلة لحوم الدول.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أكلة لحوم الدول أكلة لحوم الدول



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل

GMT 13:13 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين مصر وموانئ دبي العالمية لتطوير منطقة حرة عامة

GMT 19:17 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

التشكيل الرسمي لمباراة إنبي والبنك الأهلي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon