بقلم - غسان شربل
شيءٌ من النعاس. وقليلٌ من التعب. هكذا تختتمُ المواعيدُ الخارقة. ما أجملَ أن ينشغلَ العالمُ بك وأن يتجسَّسَ على خطواتك! أن تطاردَ الأقمار الاصطناعية قطارَك المصفَّح! وأن يغرقَ الصحافيون في المبالغاتِ والسيناريوهات الخيالية، وأن تستنفرَ أجهزة الاستخبارات لاصطياد معلومةٍ أو إشارة، وأن يفوقَ الاهتمامُ بصورك الانشغالَ بالزلازلِ والأعاصير، وأن تحتلَّ الشاشات وتتصدَّرَ المواقع، وأن يقلقَ صاحبُ القرار. في سيول، وطوكيو، وواشنطن. الغموضُ يضاعف جاذبية القائد. أنفقَ الغربُ ثرواتٍ في محاولة استكشافِ نياته. لم يتأكد حتى الساعةَ من موعدِ ميلاده. يغمض عينيه قليلاً. الغموض يضفي على السيرةِ قدراً من السحر. لا تحظَى رحلات وريث ماو بهذا القدر من المتابعة. يمكن قولُ الشيءِ نفسِه عن رحلات وريث ستالين وهي في الحقيقة صارت محدودة.
لم تكن مجردَ رحلةٍ أو زيارة. كانت عرساً باهراً. صحيح أنَّه زارَ روسيا في 2019، لكن الزيارة الجديدة كانت إلى روسيا أخرى وبوتين مختلفٍ في عالم آخر. قبل حفنةِ سنوات وقع العالمُ في خطأ مريع. ومن عادتِه أن يفعل. اعتقد أن سيدَ الصواريخِ الجالسَ فوق جموع الجائعين ثمرةٌ تنتظر موعد سقوطها. تذكَّر مواعيدَه المثيرةَ مع دونالد ترمب. توهَّم الرجلُ أنّني أصافحه غريقاً يبحث عن خشبة نجاة. عاملني كأنّني صاحبُ شركة يمكن أن يبرمَ صفقة يتنازل بموجبها عن بعض الأسهم، وبعضِ الأنياب، وبعضِ ملامح مجلسِ الإدارة. الغربُ بعيد ويغرف من قاموسٍ آخر. لم يقدّرْ ترمب كم كافحت بلادُنا لتتمتَّع بالنوم على وسادةِ نووية. كم ضحَّت من أجل إنتاج أجيالٍ طموحة من الصواريخ. أميركا عالم آخر. تخدعها الأشياء. ربَّما لأن رئيسها يمكن أن يسقطَه عنوانُ صحيفة، أو خبرُ فضيحةٍ على وسائل التواصل. ها هو ترمب يتخبَّط في حبالِ المحاكمات. وها هو بايدن يصابُ من جهةِ نجله.
كان فلاديمير بوتين لذيذاً وشفافاً. طلَّق تحفظ السنوات السابقة والحرج الذي كانَ يشعر به حيال ما يسمى «الرأيَّ العامَّ العالمي». ولد بوتين آخر. محارب بلا رحمة. قال إنَّ شمسَ الغرب تغرب، وإنَّه يتولَّى تسريع انطفائها، وإنَّه يريد تعميقَ العلاقات الاستراتيجية ولن يبخلَ بأسرار الصناعات العسكرية، وصولاً إلى الأقمار الاصطناعية. ما جعل هذه الرحلةَ مختلفةً عن تلك التي قام بها جدُّه المبجلُ كيم إيل سونغ إلى روسيا للقاء جوزيف ستالين هو حاجة روسيا إلى الزائر.
يشعر بمتعة غير مسبوقة. ما أجملَ أن يقرَّ القيصرُ بحاجته إلى شيء من ترسانتك! بدَّد جيشُه بحراً من الذخائر على أرض أوكرانيا ولم يستطع حسمَ الحرب أو حتى التكهُّنَ بموعد إعلانِ الانتصار. لا يستطيع بوتين توفيرَ الوجبات الضرورية لأفواه مدافعِه الجائعة في بلاد زيلينسكي. حساباتُه لم تكن دقيقةً. وخيرُ دليلٍ أنَّه يتوكأ أيضاً على المسيّرات الوافدة من بلاد الولي الفقيه.
ما أجملَ أن ينتظر القيصر! وأن تتقدَّم على السجادة الحمراء، وأن يطلبَ منك، وأن تخفَّ لنجدته، لإنقاذ هالةِ جيشه، وأرواحِ جنوده، والفتكِ بأعدائِه وأعدائك. وهذا يعني أنَّك عثرت على موقع، وعلى دور، وعلى وظيفة. وما أجملَ أن يستعرضَ أمامك إنجازاتِ بلاده الفضائية والصاروخية، وأن يعدك بدم جديد لترسانتك، وشراكة كاملة في جبهة الممانعة الدولية! وأغلبُ الظَّنِ أنَّ بكينَ تراقب بالمنظار ما يجري، وتشعر ربما بالغيرة، وبضرورة أن تكونَ أكثرَ سخاءً على جارها الكوري، وأنَّ لكوريا الشمالية دوراً تلعبُه في مواجهة مناوراتِ بايدن الأخيرة لربط أجهزة الإنذار بين طوكيو وسيول ومحاولته تحويلَ الهند شوكةً عملاقةً في الخاصرةِ الصينية.
لم يخطئ حينَ استخدم كلمةَ «الرفيق» في وصف مضيفه. سيدُ الكرملين الحالي زعيمٌ سوفياتي بامتياز. لا شيءَ يربطه بالخائنيْن بوريس يلتسين وميخائيل غورباتشوف. أغلبُ الظَّنِ أنَّه يرفع تقاريرَه مباشرةً إلى ستالين العظيم. إنَّه «الأمين العام». صلاحياتُه شاسعة وتفوق تلك التي تنعَّمَ بها ليونيد بريجنيف. دعكَ من حبر الدستور ولافتات الأحزاب والانتخابات. الضروراتُ تبيح المحظورات.
كانت المحادثات دافئةً وحميمة. غمرنا شعورُ المبحرين في القاربِ نفسه. اندفع بوتين في أوكرانيا ونسفَ جسورَ العودة. خسارةُ الحربِ غيرُ واردة. إنَّها أكبرُ من قدرةِ روسيا على الاحتمال. ولن ينزلَ في التاريخ في صورة غورباتشوف أخطر. الهزيمةُ زلزالٌ سيضرب الاتحادَ الروسي. لن يسمحَ حتى ولو اضطر إلى الغرف من أشد الأسلحة فتكاً في ترسانته الهائلة. راوده سؤالٌ صعب. هل يبحر شي جينبينغ فعلاً في القارب نفسه؟ هل يريد انتصار بوتين حتى ولو كان باهظاً؟ هل تتطابقُ حسابات كسر شوكةِ الغرب مع حسابات «الحزام والطريق» وحلم الاقتصاد الأول في العالم؟ هل تُلقي الصينُ في النهاية بثقلها إلى جانب بوتين، أم تفضلُ سياسةَ اختيار الكلمات وضبط الجرعات؟ لكن كيف ترجع تايوانُ إلى حضن الوطنِ الأم إذا أَحبطت أوكرانيا محاولةَ تركيعِها ومصادرة أجزاء من لحمها؟
عالم ما بعد الحربِ الروسية في أوكرانيا مفيدٌ ومثير. قالها مرتاحاً. لن نرى في القريب المشاهدَ التي سبقت الحرب. لن نرى بوتين يصافح الشرطيَّ الأميركي. لن يصافحَ الرجل الجالس على كرسي ميركل. ولا النائم في سرير مارغريت ثاتشر. ولا شاغل مكتبِ شارل ديغول. عالمُ جدارِ النار الأوكراني أخطرُ من عالم جدار برلين. هذه حرب كبرى. حرب الثأر للاتحاد السوفياتي الذي اغتاله الغرب من دون إطلاق رصاصة. سمَّمه بالتقدم التكنولوجي وجاذبيةِ النموذج وسطوة الإعلام. شيء يشبه حرباً عالمية على مسرح محدود. مبارزة بلا رحمة بالصواريخ والمسيرات والأسلحة الدقيقة. التمعت في ذهنِه فكرةٌ مفخخة. إذا كان يحقُّ لروسيا إنكارُ وجودِ أوكرانيا كدولة، لماذا لا يحق له اعتبار كوريا الجنوبية مجردَ اختراع ومحمية أميركية؟
نظرَ في المرآة وحاولَ ضبط سعادته. روسيا الغارقة في أوكرانيا ستحتاج أكثر إليه. وبلاده أصلاً جمعية خيرية لا تبخل بالصواريخ والقذائف. جاءه حبل النجاة من نكبة بلاد زيلينسكي. ابتسم. يتمنَّى أن يكون كلام بوتين عن انحدار الغرب سريعاً. لا يمانع أبداً في تسارع انحطاط الغربِ شرط ألا يتوقف عن ارتكاب أرقَى أنواع الجبنة والنبيذ.