بقلم - غسان شربل
استدعى الشاب المتوتر والديه إلى جلسة مصارحة. قال إنَّه يحب لبنان كثيراً لكنَّه قرَّر الاستقالة منه. أوضح أنَّ القرار مؤلم له وللعائلة، لكنَّه اتخذه بعد تفكير طويل. أكَّد أنَّه سيطرق أبواب كل السفارات بلا استثناء وإن تعذر الأمر لن يتردَّد في القفز إلى أحد «قوارب الموت».
حاول الوالد احتواء الموقف خصوصاً بعدما كادت الدموع تلوح في عيني زوجته. قال إنَّ لبنانَ بلدٌ صعب في منطقة صعبة وسبق أن اجتاز مراحلَ معقدة، لكنَّه استرجع أنفاسه وحياته. لم يقتنع الشاب. قال إنَّه ليس مستعداً أن يهدر سنوات من عمره بانتظار عثور الجمهورية المقطوعة الرأس على رئيس. أضاف أنَّه لن يهدر عمره بانتظار جلاء مصير القاضي البيطار وتحقيق المرفأ. وأنَّه لن ينتظر عودة الكهرباء إلى العاصمة التي استولت العتمة على معناها وروحها. وأنَّه لن يستطيع تأمين خبزه في الغابة المخيفة. وعبّر عن خيبته من الانتخابات الأخيرة التي انتهت بإعادة انتخاب من يصنفهم كثير من المواطنين في خانة كبار المرتكبين.
شعرت الأمُّ بخوفٍ شديد مما سمعت. أنفقت عمرها ترعى هذا الفتى ليبني مستقبلاً معقولاً خصوصاً أنَّ نتائجه الدراسية تؤهله لذلك. خافت من مشاعر العزلة والوحدة التي ستنتابها حين يهجم العمر على بيت قطع آخر روابطه مع المستقبل. استوقفها قول ابنِها إنَّ لبنان لم يعد مكاناً صالحاً للعيش. وشعر الوالد بارتباك. هل كان عليه أن يغادر باكراً ليولد الصبي في دولة لا في غابة؟
في الليل جلس الأب كئيباً يقلّب كلمات ابنِه وأحوال البلاد. نهبت المنظومة أرصدة المواطنين واقتلعت آخرَ معالم الدولة. نوع غريب من الذئاب. غريب ورهيب. كأنَّ اللبنانيين لعبوا بدمهم ودم أولادهم. لا البرلمان برلمان ولا الحكومة حكومة ولا القضاء قضاء. طفحت مخاوفُ سكان البيت اللبناني وكراهياتهم. كأنَّهم تعبوا من العيش معاً. التساكن منهكٌ والطلاق قاتل. فشل اللبنانيون حتى في تنظيم التعايش بين سموم التاريخ وعواصف الجغرافيا. الضعيف لا يقر بأنَّ الزمن تغير. والقوي لا تراوده فكرة احترام شروط العيش تحت سقف واحد. نكبة العيش بلا دولة.
فكر في استدعاء ابنِه على عجل لإبلاغه قراراً صارماً بعدم المغادرة. العائلات ليست شركاتٍ لتصدير الأبناء إلى الغربة والمنافي. لكنَّه تمهّل قليلاً. لا يمكنه إنكار أنَّ المدينة فقدت سرَّها. وجامعتها. ومرفأها. ومستشفاها. والقاموس الذي كان يربط بين جزرها. ثم إنَّ الخبزَ صعب ولا يمكن انتزاعه إلا بالسباحة في بحر من الذل. لا يستطيع إنكار أنَّه شخصياً يشعر بأنَّ عمرَه أهدر قبل رصيده. وأنَّ الشرطيَّ ليس شرطياً. والمحكمة ليست محكمة. وأنَّ القانونَ غريبٌ وذليل. وأنَّ الدستورَ ممسحة. وأنَّ كل نهار جديد فرصةٌ جديدة لإهانات جديدة. وحدهم القراصنة يرقصون كالطواويس المفترسة فوق السفينة الغارقة. يجتمعون ويفترقون. تتدلَّى أفكارُهم اللزجة من الشاشات وأحياناً يغردون. غابة الطواويس والذئاب.
حاول العثور على عزاء متواضع. متابعته الدقيقة لنكبات «قوارب الموت» علمته أنَّ الكارثةَ أوسع من خريطة لبنان. خراب هائل عابر للحدود وخرائطُ مريضة لا ينقذها الأبناء ولا يرحمها الآخرون. خرائطُ حولتها الشراهات الإقليمية ملاعبَ لحروب لا تنتهي. زعزعة استقرار وتغيير ملامح وشعارات تسكب لإلهاء من ضاعت بلدانهم على مائدة الأقوياء. كلَّما غرق قارب هنا أو هناك يسأل عن هويات الضحايا. عن الأماكن التي دفعتهم إلى البحر ومائدة الأسماك. ويعثر في اللوائح على سوريين وفلسطينيين وعراقيين وصوماليين وليبيين وجنسيات أخرى.
حلم سابقاً أن يستيقظَ ذات يوم ليرى الشرق الأوسط استردَّ إنسانيته. حكومات منشغلة بالتنمية وتطوير التعليم وإيجاد فرص عمل. حكومات لا تنهب المال العام ولا تهدره. حكومات تحترم المواطنين وتحرس حقَّهم في الاختلاف تحت سقف الدستور. حكومات لا ترتعد فرائصُها أمام القاتل والسارق. لكنَّه أقلع عن ارتكاب هذا النوع من الأحلام فالشرق الأوسط بيت بنزاعات لا تنتهي.
لم يبتهج أبداً بـ«الربيع العربي» حين استولى عليه أعداءُ الربيع. لكنَّه يريد العيش في دولة يحكمها القانون وتتَّسع لجميع مواطنيها حتى وإن شربوا من ينابيع مختلفة وتعلقوا بأغانٍ لا تتشابه.
الشرق الأوسط بيت بنزاعات كثيرة. وُلدنا فوجدنا الجرح الفلسطيني مفتوحاً. ووجدنا الجرحَ الكردي نازفاً. حروب واتفاقات. مفاوضات وانهيارات. كأنَّ بعض الخرائط لا تتَّسع لبعض أبنائها. تذلهم إن اعتدلوا وتقتلهم إذا امتشقوا السلاح. أفكر في الشاب الكردي المقيم عند الجانب السوري من الحدود التركية. كل بيت يقيم فيه مؤقت أو عابر. كل مستقبل يلوح له غامض أو مخيف. أغلب الظن أنَّه يقول لوالديه ما قاله الشاب اللبناني الذي اتخذ قرارَ الاستقالة من وطنه.
أفكر أيضاً في الفلسطيني الذي كان يفترض أن يحلمَ بالفوز بشهادة محترمة وعمل مناسب يخفف قسوة العيش عنه وعن عائلته. كان يفترض أن يحلمَ بالعثور على صديقة تفتح أمامَه بابَ الأحلام والأوهام والأغنيات الجميلة. كان يمكن لحياته أن تسلكَ طريقاً طبيعياً، لكنَّه ابن مكان يصعب العيش فيه. كأنَّ مصير الإسرائيليين والفلسطينيين أن يقتتلوا إلى الأبد لأنَّ الاستقرار لا يمكن أن يبنى على الظلم. لقد أضاعت إسرائيل فرصتين تاريخيتين الأولى «اتفاق أوسلو» والثانية مبادرة السلام العربية. وها هي دوامة الدم تعود.
ليلٌ دامسٌ في خرائطَ كثيرة. لا فكرة مضيئة ولا بارقة أمل. ما أصعبَ العيشَ في هذا الجزء من العالم!