بقلم: غسان شربل
كان ذلك في أواخر العام 2004. كنت أتناول الغداء مع صديق في العاصمة الفرنسية حين تلقى اتصالاً. وحين انتهت المكالمة قال: «هذا الرئيس رفيق الحريري وصل الآن إلى باريس». أعربت عن الأسف لأنني سأغادر مساءً، فقال: «اتصل به. أغلب الظن أنه لن يبدأ مواعيده قبل ساعتين أو ثلاث، وأعتقد أن ثمة فرصة للقائه». اتصلت فاقترح عليَّ الحضور بلا تأخير.
دخلت منزل الحريري فوجدته ينتقل بين الشاشات. بعد السلام سألته عمَّا يشغله في تلك الأيام وفاجأني جوابه: «صدقني أبحث عن صديق حقيقي لبشار الأسد». قلت إن «للرئيس الأسد كثيراً من الحلفاء والأصدقاء». قال: «أنا أقصد الصديق الحقيقي الذي يصارح الرئيس بالحقيقة، ولا أعرف شخصاً بهذه المواصفات. المشكلة أن المستشارين والأصدقاء يقولون للحاكم ما يعتقدون أنه يحب سماعه. يتجنَّبون ما يمكن أن يزعج أو يحرج أو يسير في اتجاه مناقض لتقارير أجهزة الأمن. لا أحد يريد إغضاب صاحب القرار. وقد عرفت بالتجربة أن بعض من يدَّعون صداقة سوريا ورئيسها يشكلون عبئاً عليها وعليه، لأن معلوماتهم خاطئة أو تنطلق فقط من مصالحهم الضيقة».
وأضاف: «قد تستغرب هذا الحرص منِّي بعد التجربة المرّة مع (الرئيس) إميل لحود. أنا أنظر إلى الأمر من زاوية استراتيجية. أي انهيار في سوريا على غرار الوضع في العراق أو ما يشبهه سيكون كارثة لسوريا وللبنان والمنطقة. لا أخفي عليك أن لديَّ الكثير من الأسباب للعتب على الأسد، لكن الأمر أكبر من الموضوع الشخصي. معلوماتي أن الأسد يمشي في اتجاه العمل مع إيران لإفشال الوجود العسكري الأميركي في العراق، وإفشال المؤسسات التي ستقوم على قاعدة التحالف مع أميركا. غزو العراق خطأ هائل، لكننا نتحدث هنا عن سوريا ومستقبلها وانطلاقاً أيضاً من مصلحة لبنان».
وقال: «دعك من كُتاب التقارير المحليين وأصدقائهم في بعض الأجهزة في دمشق. لا مصلحة للأسد في الانتصار على رفيق الحريري ووليد جنبلاط في لبنان. لديه مشكلات أكبر وأخطر بكثير. أنا أبحث عن صديق حقيقي يستطيع أن يقول له إن الطريق الفعلية لتبديد مخاوفه من وجود الجيش الأميركي على حدوده مختلفة عن الطريق التي يبدو أنه اختار سلوكها. يجب أن يصارحوه أيضاً بأن وضع اقتصاده سيئ ويحتاج إلى معالجة سريعة. البطالة في تزايد والوضع في الأرياف يزداد صعوبة. نسبة التزايد السكاني مرتفعة. الإدارة مترهلة ومثقلة بالموظفين وغير فاعلة. والحزب بات آلة قديمة يحركها ضباط الأمن وعلاقته مع الناس تقوم على التخويف فقط. ثم إن القرار 1559 لمجلس الأمن وضع سوريا في مواجهة مع المجتمع الدولي. المؤسف أن نصيحة التمديد للحود دفعت سوريا إلى وضع صعب، علماً أنها كانت قادرة على الإتيان برئيس حليف لها».
وزاد: «أنا أعرف حرص السعودية ومصر على الاستقرار في سوريا. تستطيع دمشق الإفادة من الرياض والقاهرة للحصول على ضمانات تتعلق بنوايا الأميركيين، وتستطيع البدء بعملية انفتاح تخفض التوتر الداخلي الصامت، وتعيد قدراً من الحيوية إلى الاقتصاد وتشجع المستثمرين. ويستطيع لبنان بخبراته وقطاعه المصرفي لعب دور مساعد. لهذا قلت لك إنني أبحث عن صديق حقيقي للأسد».
تذكرت كلام رفيق الحريري خلال نقاش مع أحد الدبلوماسيين في لندن. قال إن الأهوال التي ارتكبت في سوريا تركت جروحاً عميقة لدى السوريين، ومعها رغبة في الثأر. لكن الخروج من الحروب لا يكون بالاستسلام للمشاعر، على رغم وطأة الخسائر الإنسانية، وهي هائلة.
وأضاف: «دعنا نتصارح. لا خيار الآن في سوريا غير الواقعية. لم يعد موضوع إسقاط النظام مطروحاً منذ التدخل العسكري الروسي. كل الذين عملوا على إسقاط الأسد أو تمنوا ذلك يسلِّمون الآن ببقائه. لكن الوضع الحالي شديد الخطورة، وينذر بانفجارات كثيرة ما لم يطرأ تحسن يوحي بعودة القرار السوري، وعلى نحو يأخذ في الاعتبار ضرورة الخروج من منطق الحرب».
وأشار إلى أن «سوريا مسرح اليوم لمجموعة حروب. حرب بين السلطة وحلفائها من جهة، والمعارضة المتحصنة في إدلب، ناهيك بالهيمنة الواضحة لتنظيمات إرهابية على بعض المناطق. هناك أيضاً حرب إسرائيلية على البنية العسكرية الإيرانية في سوريا، وهي حرب يمكن أن تفلت من الضوابط بفعل تصاعد حرارة الأزمة حول مضيق هرمز. وهناك حرب تركية على التنظيمات الكردية المسلحة في الأجزاء السورية المتاخمة للأراضي التركية. أخطر ما في الأمر أن الوجود العسكري الخارجي، وخصوصاً التركي والإيراني، يترافق مع محاولات لإحداث تغييرات ديمغرافية لقلب توازنات قديمة في بعض المناطق. استمرار الوضع الحالي ووجود الميليشيات قد يمهّد الطريق لدورة جديدة من الإرهاب، على رغم ما لحق بـ(داعش) في سوريا والعراق».
وقال: «إيران متمسكة بوجودها العسكري في سوريا، وإسرائيل متمسكة باقتلاعه أو مطاردته. وتركيا متمسكة بوجودها العسكري أيضاً، والأكراد يستعدون لمواجهات طويلة. رجلان يستطيعان القيام بمحاولة لتغيير تدريجي في هذا المشهد، وهما بشار الأسد وفلاديمير بوتين. لا يطلب أحد من الأسد أن يطرد الإيرانيين والأتراك من سوريا غداً. لديه فرصة فعلية لتغيير الأوضاع. يستطيع الأسد الشروع في عملية ترميم تدريجية للقرار السوري تؤدي إلى تراجع تدريجي في الوجود العسكري الإيراني والتركي على أراضي بلاده».
ورأى أن «المطلوب تخطي لغة المنتصر إلى لغة الباحث عن حل من موقع قوة، ومحاولة استقطاب السوريين لترميم القرار السوري. عودة الروح إلى الدولة السورية، على قاعدة التوجه إلى إعادة الإعمار وإعادة المهجّرين وجملة من الخطوات السياسية المعقولة، سيقلص بالضرورة من الحضور الإقليمي العسكري والسياسي على الأرض السورية وفي القرار السوري. هناك واقعية دولية في النظر إلى الوضع السوري، وأي صديق للقيادة السورية يجب أن ينصحها بإبداء الواقعية وإطلاق عملية هادئة تعيد القرار بكامله إلى يد السوريين وبدعم من المظلة الروسية».
بين كلام رفيق الحريري وكلام الدبلوماسي 15 عاماً، حفلت بتطورات كبيرة وخطرة في سوريا والمنطقة معاً. القاسم المشترك هو الشعور بأهمية سوريا في استقرار المنطقة وأمنها والتوازنات في منطقة الشرق الأوسط. سوريا الموحدة والمستقرة والباحثة عن الازدهار ستكون موضع ترحيب عربي ودولي، وسينعكس الاستقرار فيها إيجاباً على جيرانها، خصوصاً العرب منهم. استقرار سوريا والعراق شرط أساسي لعودة التوازنات التاريخية بين مكونات الشرق الأوسط.