توقيت القاهرة المحلي 20:45:07 آخر تحديث
  مصر اليوم -

على حبل الخوف

  مصر اليوم -

على حبل الخوف

بقلم - غسان شربل

يجتاز العالم منعطفاً خطراً. حريق هائل وغيابٌ مروّع لسيارات الإطفاء. العيادة الدولية معطلة وتكاد تشهرُ عجزَها الكامل عن استقبال المصابين. لم يكن الوضعُ يوماً بمثل هذا السوء منذ الحرب العالمية الثانية. ما يجري أخطرُ بكثيرٍ من الحرب الكورية، والحرب الفيتنامية، وأزمة الصواريخ الكوبية.
في العالم الحالي رائحة خوف غير مسبوقة. ثمة من يعتقد أنَّ فلاديمير بوتين يشعر بخوف عميق على مستقبل روسيا ودورها. يعتبر الانهيارَ السوفياتي جريمة جرَّدت بلادَه من خطوطها الدفاعية وقرَّبت العواصفَ من حدودها. الرجل القوي رجل خائف أصلاً. يخاف من سحر النموذج الغربي الذي أغوى جمهورياتٍ كثيرة بنزع الرداء السوفياتي، ومن «الثورات الملونة» التي تضع الحاكمَ أمام خيارين صعبين؛ إغراق الساحات في الدم أو تسليم الأختام إلى من «تحركهم السفارات الأجنبية». يخاف من تسارع وتائر الثورة التكنولوجية في الغرب وعجز بلادِه عن اللحاق بها. يخاف من سطوة الدولار وهيبتِه التي تفوق هيبة الأساطيل والصواريخ.
انتشرَ الخوفُ في العروق الأوروبية. ألمانيا تعترف بأنَّ جيشَها لا يكفي بعديده وترسانته للدفاع عن أراضيها. هذا يجعل المظلة الأميركية قصة حياة أو موت، ولكل مظلة ثمن. بولندا خائفة من أن تكونَ أوكرانيا هي الحلقة الأولى في حرب قد تفيض عن حدود مسرحها الحالي.
أميركا القوية خائفة أيضاً. بوتين قادرٌ على الاستمرار في الحرب حتى سحق أوكرانيا، على غرار ما فعل الحلفاء ببرلين ذات يوم. وخائفة من أن يكونَ استنزافُ الغرب في الحرب الروسية في أوكرانيا هدية العمر للصعود الصيني المخيف. اليابان خائفة وتحاول معالجة مخاوفها بالمظلة الأميركية وشراء الصواريخ. وكوريا الجنوبية تتحسَّس ترسانتَها بعدما عثر الزعيم الكوري الشمالي على دور له في عالم بوتين.
كان العشاء لذيذاً، لكن الليل العراقي يحرض على الخوض في حديث المخاوف. قال السياسي إنَّ هذا الجزء من العالم شهد تطاحناً طويلاً بين إمبراطوريات ومجموعات سكانية كبرى. انتهى التطاحنُ بأنهار من الدماء ومرارات توارثتها الأجيال. الإمبراطوريات السابقة تراودها مشاعرُ الأجساد التي تعرَّضت لعمليات بتر قسرية. العراق نفسه ولد في حاضنة الخوف. كأنَّه وُلد بين فكي كماشة، أي بين إيران وتركيا.
أقسَى ما يمكن أن تُصابَ به خريطة هو لقاء أمواجِ خوف الداخل بأمواجِ الخوف من الخارج. خوف الشيعة الذي تحوَّل لاحقاً إلى السنة. وخوف الأكراد على هويتهم وحقوقهم. وخوف العرب من قفز الكردي القوي من الخريطة. تركيا تطالب بدور يفوق حدودَها الحالية وربما قدراتها. الأمر نفسه بالنسبة إلى إيران التي ترسم خطوطَها «الدفاعية» داخل خرائط الآخرين. إيران الثورة كانت دائماً قوية وخائفة. إنَّها كروسيا تخاف من الغرب ونموذجه. وفي الداخل كأنَّ الثورة تخاف من ارتداء عباءة الدولة، لأنَّها تعتبر أنَّ ذلك يعيدها دولة عادية محكومة بالأعراف والقوانين الدولية.
خوفُ العراق من ثورة الخميني كان السبب الأول في الحرب العراقية - الإيرانية. طبعاً يمكن أن نضيفَ رغبة صدام حسين في محو صفحة التنازلات التي قدَّمها لإيران الشاه في اتفاقية الجزائر في 1975. خوف سوريا من تركيا جعلها تلعب في فترة ما، ورقة حزب العمال الكردستاني حتى كاد الأمر أن يتسبب في حرب بين البلدين.
أمضى العراق عقوداً طويلة مع الخوف. لا يتَّسع المكان إلا لرجل واحد. خافَ عبد الكريم قاسم من الدور الذي لعبه شريكه عبد السلام عارف في ثورة 1958 فأبعده وأذله. وخافَ عبد السلام من بقاء عبد الكريم حياً فلم يرحمه، ورجّح خيار إعدامه في مبنى الإذاعة في 1963. وكان صدام أستاذاً في المخاوف وكانَ يسارع إلى اقتلاع «الأعشاب السامة» في البلاد وفي الحزب والجيش. لم يغب الخوف مع غياب صدام. هزَّ الغزوُ الأميركي المعادلة العراقية. ذهبَ بعض الخائفين من المشهد الجديد إلى المقاومة ثم ذهب قسم منهم إلى «داعش» فتجدَّدت كل أنواع المخاوف. ووافق كثيرون على دستور العراق الفيدرالي، ثم تجددت مخاوف بعضهم حين رأوا مسعود البارزاني يجلس تحت علمين؛ الأول للعراق، والثاني للإقليم.
الخوف بوابة الذعر. والذعر يغري بالشطب والتنكيل. هذه منطقة الخوف. يخاف المواطنُ من جاره الذي لا يشبهه. جاره الذي لا تتطابق ملامحه مع ملامحه. ربما لأنَّه يشرب من نبع آخر. أو يقرأ في كتاب آخر. نفضل التشابه الكامل والتطابق. نفضّل أن نكونَ بحراً من الأرقام بلا تحفظات أو تمايزات. لم نتدرب على العيش في دولة تكون الضمانة فيها بنودَ الدستور. دولة تتَّسع للاختلافات في ظل حكم القانون.
قال السياسي إنَّه يشعر بالألم حين يسمعُ أخبار لبنان. «هذا البلد فكرة ثقافية وحضارية كنَّا نأمل أن نتعلَّمَ منه. كنا نبتهج بأسلوب حياته المنفتح ونذهب إلى جامعاته ومكتباته. وكنَّا نفرح بعاصمة لا تتشابه عناوين صحفها ولا يكتبها رجل واحد. وكنَّا نعتقد أنَّ لبنان الجسر سيرسل إشعاعات الأمل في اتجاهنا. للأسف أدَّت المخاوف المتبادلة بين اللبنانيين، ومعها المخاوف من الدول المحيطة، إلى تدمير هذا المختبر الجميل الذي كان يشكله لبنان بتنوعه الطبيعي ونوافذه المفتوحة على التقدم. نحتاج إلى ثورة ثقافية قبل أي ثورة أخرى. ثورة تبدّد هذا الخوف المزمن المتبادل بين الخرائط وداخلها».
في العالم الخائف الذي يتحسَّس ترساناتِه ومسيّراتِه تحتاج الخرائط الصغيرة إلى دولة ورجال دولة. وحدها الدولة العصرية تختصر الآلام وتقلل الأخطار. لا يمكن إنقاذ الخرائط بأوهام تفيض عن حدودها، ولا يمكن إنقاذها برهانات تقل عنها. كان العشاء لذيذاً لكن ليل بغداد يساعد على إيقاظ حديث المخاوف في عالم يمشي اليوم على حبلِ الخوف المشدود.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

على حبل الخوف على حبل الخوف



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل

GMT 13:13 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين مصر وموانئ دبي العالمية لتطوير منطقة حرة عامة

GMT 19:17 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

التشكيل الرسمي لمباراة إنبي والبنك الأهلي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon