توقيت القاهرة المحلي 07:21:01 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مصنع الزلازل

  مصر اليوم -

مصنع الزلازل

بقلم - غسان شربل

كنا نتابع ارتكابات الزلزال عبر الشاشات. وكانت المشاهد تكسر القلب. قرى مطحونة كأنَّها لم تكن. وأبنية نفذت حكم الإعدام بساكنيها. ونداءات استغاثة من تحت الأنقاض تغالب الوقت وغالباً ما يغلبها. وكان الوقت طويلاً وقاسياً على من يعاين الركام من خارجه. وكان قاتلاً على من وقع في أسره. وكانت بورصة الموت تحلّق مجنونة. وعشرات آلاف العائلات تستدعي ما تبقى لديها من الدموع. ما أصعب أن يغدر البيت بأبنائه. ما أصعب أن يتحول قبراً بعدما كان ملاذاً. وما أصعب أن يصبح السقف عدواً بعدما كان حارساً. تناثرت البنايات. الشرفات لم تعد. والشبابيك كانت. تجمعت الأبنية كتلاً مذعورة مبعثرة الأحشاء وأطبقت على لحم من توهموا أنها تحمي.
كان حديث الزلزال مفتوحاً على مصراعيه مع السياسي العراقي. أعرب عن ثقته أن المشاهد ستهز ضمير العالم ولن يتأخر في مد يد المساعدة. الساعة ليست للتحفظات أو فتح الدفاتر. لا خيار أمام هول الكارثة غير أقصى درجات التضامن. وكان محقاً في تقديره إذ لم تتأخر دول قريبة وبعيدة في النهوض بمسؤولياتها الإنسانية.
قال إننا أبناء منطقة تقيم على خط الزلازل. ومن وقت إلى آخر ترتكب الطبيعة مثل هذه الجرائم المروعة. كأنَّ هذه المنطقة تحتاج إلى المزيد من المقابر والمزيد من اللاجئين! لاحظ أنَّ هذا الزلزال المتوحش يبقى أقل هولاً من الزلازل التي ضربت المنطقة بفعل سياسات زلزالية. سألني ألا تعتقد أن عدد الضحايا ومهما ارتفع سيكون أقل من عدد ضحايا الزلزال الذي ضرب لبنان بدءاً من عام 1975؟ أنا لا أقلل من هول ما يحدث. لكن ألا تذكر الزلزال الذي شكلته الحرب العراقية - الإيرانية. دام ذلك الزلزال ثماني سنوات وأنجب نهراً من القتلى والمعوقين ولا نزال حتى اليوم نسدد تلك الفواتير.
راح السياسي العراقي يحصي الزلازل. هل غاب عن بالك أننا نقترب من الذكرى العشرين للغزو الأميركي للعراق؟ إنه زلزال لم تتوقف هزاته الارتدادية بعد، ليس على أرض العراق وحده بل أيضاً على أرض الخرائط التي تدفع ثمن الخلل الذي أحدثه الغزو في توازنات تاريخية في هذا الجزء من العالم. وبين الزلزالين، هناك زلزال الغزو العراقي للكويت والذي رسخ إقامة المنطقة على خط الانهيارات. لا يمكن نسيان الغزو الإسرائيلي لبيروت في 1982 ورؤية الجيش الإسرائيلي يحتل عاصمة عربية. وأعرب عن ألمه لأن العاصمة اللبنانية التي عاندت الآلة العسكرية الإسرائيلية قتلت لاحقاً على يد أبنائها أو بعضهم.
القرن الحالي كان غنياً بالزلازل. اقتلاع نظام صدام حسين تحوَّل زلزالاً. ومثله بعد أقل من عقد تحول اقتلاع نظام معمر القذافي زلزالاً عنيفاً لا تزال هزاته الارتدادية تتلاحق. اغتيال الرئيس علي عبد الله صالح رسَّخ إقامة اليمن على خط الزلازل. من حسن حظ مصر أنها نجحت في تفادي الزلزال الكبير الذي كان يهدد بإضاعة هويتها وإراقة دمها. المناطق الفلسطينية في الضفة وغزة تقيم وسط الدورات الدموية المتلاحقة وستبقى كذلك ما لم يسلم الرأي العام الإسرائيلي أن الزلزال لن يأتي من الدولة الفلسطينية بل من عدم قيامها. وهناك الصومال الذي ذهب في رحلة الزلازل ولم يعد بعد من رحلته. هل يمكن إجراء مقارنة بين ضحايا الزلزال التركي - السوري وضحايا الزلزال الأوكراني المفتوح على مصراعيه؟
قال السياسي إن منع الزلازل الطبيعية مستحيل لكن يمكن تخفيف أهوالها. الالتزام بشروط البناء وهو ما اعتمدته دول أخرى كاليابان. الالتفات إلى أهمية معالجة سريعة لمشكلة البلدات والمدن العشوائية والتي تشهد بعض أبنيتها تصدعات وانهيارات حتى من دون وقوع هزات. التصدي لوحش الفساد الذي يستغل الأموال المخصصة لقطاع البناء ويقامر بأرواح الناس من دون أن يخشى حساباً أو يرف له جفن لأن الفاسدين يتحولون في الغالب لاعبين مؤثرين في الانتخابات أو ما يشبهها.
إذا كان لا يمكن منع الطبيعة من ارتكاب جرائمها فلنحاول على الأقل منع الزلازل التي يطلقها أبناء المنطقة على خرائط الآخرين أو على خرائطهم نفسها. رأى السياسي أن ليس من حق أهل المنطقة الاستمرار في تناول سموم مطابخ التاريخ في عالم يشهد ثورات تكنولوجية متلاحقة ويستعد لتسليم مستقبله للذكاء الصناعي. قال إن الخطوة الأولى تبدأ بأن تتخذ المجموعات العرقية والدينية والمذهبية قراراً قاطعاً بالتعايش والإقلاع عن أوهام فرض الزي الموحد واللون الغالب على خرائط الآخرين. التزام عدم انتهاك الحدود الدولية تحت أي ذريعة أو تسميات إنقاذية تخفي شهيات إمبراطورية كامنة تحت الركام. قرار صارم بالالتحاق بالعصر في التعليم والصحة ومكافحة الفقر وتوفير فرص العمل وتحسين حياة الناس ومكافحة الجفاف والتصحر والتدهور البيئي.
لاحظ المتحدث أنني أنظر إليه كرجل حالم في منطقة أدمنت الزلازل وفن عدم التعلم منها. شدد على استحالة الذهاب إلى المستقبل في عربات الفساد والانتخابات المغشوشة بالعصبيات أو الدولارات أو على صهوة الميليشيات والعبوات والمسيرات. لا يمكن الذهاب إلى المستقبل إلا في قطار الدولة. حكومة تجمع النزاهة والكفاءة ومؤسسات تستحق التسمية.
بقاء الشرق الأوسط مصنعاً للزلازل عقابٌ شديد لأهله يضاف إلى ظلم الطبيعة. قسوة الأرض موسمية وقسوة مصنع الزلازل دائمة. لا بد من خلع ثقافة الظلام والثأر والانتصار والقهر ومحو الملامح واغتيال الحقوق والأدوار. لا بد من الاعتراف بالآخر وحقه في الاختلاف واختيار طريقه. وحدها قيم العدالة والتقدم والكرامة يمكن أن تساهم في إغلاق مصنع القنابل الذي أسسه تاريخ شائك في جغرافيا مفخخة وغادرة. ويبقى السؤال: من يفتح كل هذه النوافذ على شرق أوسط جديد؟ من يلملم كل هذه الدموع؟

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مصنع الزلازل مصنع الزلازل



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

النجمات يتألقن في فساتين سهرة ذات تصاميم ملهمة لموسم الخريف

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 11:02 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

سترة كيت ميدلتون الأكثر مبيعاً بعد إطلالتها الأخيرة
  مصر اليوم - سترة كيت ميدلتون الأكثر مبيعاً بعد إطلالتها الأخيرة

GMT 21:03 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

وجهات سياحية مثالية للهروب من صخب الحياة اليومية
  مصر اليوم - وجهات سياحية مثالية للهروب من صخب الحياة اليومية

GMT 20:39 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

طرق دمج لوحات الفن التجريدي بديكور المنزل لخلق جوّ هادئ
  مصر اليوم - طرق دمج لوحات الفن التجريدي بديكور المنزل لخلق جوّ هادئ

GMT 23:59 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

حزب الله يعلن إطلاق "مرحلة جديدة" في المواجهة مع إسرائيل
  مصر اليوم - حزب الله يعلن إطلاق مرحلة جديدة في المواجهة مع إسرائيل

GMT 14:40 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

وسيلة لمنع الحمل قد تزيد من خطر تعرض النساء لسرطان الثدي
  مصر اليوم - وسيلة لمنع الحمل قد تزيد من خطر تعرض النساء لسرطان الثدي

GMT 22:35 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

إنجي المقدم تعود إلى الدراما بعد غياب 3 سنوات
  مصر اليوم - إنجي المقدم تعود إلى الدراما بعد غياب 3 سنوات

GMT 08:11 2024 الثلاثاء ,15 تشرين الأول / أكتوبر

جولة على أهم المتاحف والمعارض الفنية العالمية والعربية

GMT 00:04 2024 الإثنين ,05 آب / أغسطس

الزمالك يتعاقد مع عمر عزب لاعب كرة السلة

GMT 20:17 2020 الإثنين ,17 شباط / فبراير

مؤشر البورصة العراقية يغلق على ارتفاع

GMT 05:06 2019 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

تعرف على المواصفات والعيوب الشخصية لمواليد "برج القوس"

GMT 13:50 2019 الثلاثاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

كيفية اختيار ديكورات أسقف مطابخ منزلية عصرية

GMT 12:34 2019 الثلاثاء ,15 تشرين الأول / أكتوبر

انطلاق فعاليات مؤتمر الإفتاء الخامس بمشاركة علماء 85 دولة

GMT 06:19 2019 الأحد ,07 تموز / يوليو

رسمات أيلاينر مقوس بأسلوب عصري لصيف 2019

GMT 21:06 2019 الأحد ,16 حزيران / يونيو

علاء مبارك ينشر مقطع فيديو مؤثر عن والده

GMT 22:43 2018 الإثنين ,17 كانون الأول / ديسمبر

صورة لهيفاء وهبي تُثير الجدل على "إنستغرام"
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon