توقيت القاهرة المحلي 14:21:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

سائح من الشرق الأوسط

  مصر اليوم -

سائح من الشرق الأوسط

بقلم: غسان شربل

أحياناً ينعقد خيط من الود بين غرباء. كان العامل في الفندق لطيفاً. خالني سائحاً يبحث عن منظر خلاب. قال إن ثمة فرصة لا يجوز لزائر إضاعتها. نصحني أن أصعد إلى سطح الفندق لأراقب من هناك غروب الشمس وراء الجبل الصغير الساهر قبالة الميناء. ولأنني جئت في مناسبة شخصية قلت أنصاع لنصيحته. واكتشفت كم كان محقاً. راحت الشمس تنزلق على مهل ثم استحالت كرة خجولة من النار وتوارت. وشعرت لبعض الوقت بلذة أن تكون سائحاً. أن تكتشف وتعاين وتسرق أجمل المشاهد وتخفيها في هاتفك. إنها متعة التواصل مع الجبال والأشجار والمدن التي تغسل أقدامها في المياه الشاسعة. ولازمني شعور عميق أن الصحافي سائح سيئ النية. كلما زار بلداً يروح يسأل عن آلامها بدلاً من التمتع بمباهجها.
تطوع العامل ورافقني في رحلة التحديق في مشهد الغروب. سألني أين أعيش؟ فأجبت في لندن، فرد بابتسامة واسعة كأنني أتحدث عن أرض الأحلام. أبديت إعجابي بجمال البلاد وفاجأني بالقول إن البلاد تبدو جميلة دائماً للغرباء. وكان لا بدَّ من الخوض في الحديث. قال إن الزائرين يدخلون جنوب أفريقيا وفي ذهنهم صورة مشرقة هي صورة نيلسون مانديلا. أشاد بالقائد التاريخي الذي أخرج ملايين المواطنين من عصر مديد من الظلم والظلام على قاعدة التسامح والمصالحة كابحاً الرغبة العميقة في الثأر التي كان يمكن أن تغرق البلاد في انهيار كامل وبحر من الدماء.
لاحظ أن القائد الاستثنائي يأتي ويذهب ويترك الخريطة في عهدة رجال عاديين. رجال يحركهم جوع عميق إلى السلطة وضعف رهيب أمام مغرياتها ومفاسدها. قلت إن البلد حقق تقدماً لافتاً؛ فهو عضو في مجموعة العشرين ولديه بنية تحتية متطورة واقتصاده هو الثاني في القارة السمراء بعد نيجيريا. لم ينكر أن ذلك قائم فعلاً، لكنه لاحظ أن نسبة البطالة تكاد تصل إلى ثلاثين في المائة، وهذا مخيف فعلاً. لفتني إلى أن المشكلة الأكثر خطورة هي الفروقات الهائلة بين المواطنين؛ أي بين الذين ازدادوا ثراء والذين ازدادوا فقراً، ويتكدسون في تجمعات تحتاج إلى كل شيء، ما يرفع نسبة الجريمة والسرقات وانتهاك القانون. وأشار إلى شح في المياه بسبب نقص أمطار في السنوات الأخيرة يضاف إلى انقطاع يومي للكهرباء حتى في مدينة مثل كيب تاون. ولم يكن بوسعي إسداء أي نصيحة، خصوصاً أنني من بلد اعتبرت فيه مشكلة الكهرباء منذ عقود منجماً ذهبياً للفساد والفاسدين.
وشعرت أن المشكلة في جنوب أفريقيا تشبه المشكلة في أنحاء كثيرة، وهي مشكلة بناء الدولة العصرية التي تستند إلى مؤسسات طبيعية راسخة تتسع للمشاركة والتصحيح والتغيير. دولة تستطيع مواجهة الحاضر والاستعداد للمستقبل. دولة تعمل باقتدار لتوفير فرص تعليم عصري لأبنائها يزودهم بمفاتيح الانتماء إلى هذا العالم الذي يعيش على وقع ثورات شبه يومية في العلوم والتكنولوجيا. دولة توفر فرص العمل وتنقذ أبناءها من خطر ارتكاب حلم القفز إلى زوارق الموت لإلقاء أنفسهم في بلاد غريبة. شعرت بامتنان عميق لهذا العامل اللطيف وسألته ماذا أستطيع أن أفعل له فكان جوابه: «ليتك تأخذني معك إلى لندن. المستقبل غامض هنا. أشعر أن العيش هناك أقل صعوبة وخطورة».
أوجعني كلام الرجل خصوصاً أن بلاده تنام على ثروات منجمية كبرى. وفكرت ما عساه يقول من ينتمي إلى بلاد تبخل أرضها بالمعادن وسماؤها بالأمطار. وتذكرت موقفاً مماثلاً في الخرطوم قبل سنوات. قبيل مغادرتي سألني عامل الفندق إن كان باستطاعتي أن أؤدي له خدمة لا ينساها. وحين استفسرت أجاب أنه يحلم بالهروب من بلاده، وأنه سمع أن بريطانيا رحبة وتتسع للوافدين. إنها بلداننا وهي في النهاية سجوننا نتحين فرصة الفرار منها كي لا نسلم أطفالنا للفاشلين والفاسدين.
الصحافي سائح سيئ. لم تدم متعة مشهد الغروب طويلاً خصوصاً بعدما باح عامل الفندق بطموحاته. كان لا بدَّ من العودة إلى الهاتف. إلى لعنة إقليم الشرق الأوسط والأخبار الوافدة منه.
خبر مفرح أن تعلن هزيمة «داعش» وأن يشطب من الخريطة التي تحصَّنَ فيها. لكن السؤال الأهم هو: هل تعلمنا من التجربة المريرة والطويلة؟ أم أن السياسات التي أنجبت هذا التنظيم الرهيب ستتسبب في إنتاج وريث له أشد خطورة وهولاً؟ ثم إنه لا يمكن إنكار أن «داعش» ترك بصماته على المسرح الذي استباحه قبل سنوات وتسبب في تكريس ظاهرة الميليشيات و«الجيوش الصغيرة الجوالة» التي اغتنمت فرصة محاربة «داعش» للتحول جيوشاً موازية دائمة.
لا يبتعد الشرق الأوسط عنك مهما ابتعدت عنه. الولادة في ذلك الجزء من العالم تمهرك بقلق لا ينام حتى لو حاولت ارتداء روح السائح والتمتع بمشهد الغروب في بلاد مانديلا. خبر كبير آخر. إعلان الرئيس دونالد ترمب أن بلاده قررت الاعتراف بـ«السيادة الإسرائيلية» على الجولان.
والخبر يعني بالتأكيد تغييراً كبيراً في السياسة الأميركية حيال هذا الملف الذي حاولت واشنطن على مدار عقود لعب دور الوسيط فيه. لهذا القرار أثمانه وانعكاساته بالنسبة إلى النزاع المتجذر في المنطقة، وله تبعاته بالنسبة إلى القفز فوق قرارات الشرعية الدولية.
لا يبتعد الشرق الأوسط عنك مهما ابتعدت عنه. ثم إن الصحافي سائح سيئ أصلاً فهو صياد أوجاع لا صياد مشاهد خلابة، ولا يكفي الغروب الرائع لإخراجه من سيطرة الأخبار المؤلمة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سائح من الشرق الأوسط سائح من الشرق الأوسط



GMT 08:51 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

أين نحن من المفاوضات الدولية مع إيران؟

GMT 08:50 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

المعرفة التي قتلت لقمان سليم

GMT 08:46 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

لقمان سليم وتوحش النظام الإيراني

GMT 08:44 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

4 مليارات ثمن 12 بيضة

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon