توقيت القاهرة المحلي 08:58:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

اختفاء خاشقجي والحقيقة وتصفية الحسابات

  مصر اليوم -

اختفاء خاشقجي والحقيقة وتصفية الحسابات

بقلم - غسان شربل

شغلت قضية اختفاء الزميل جمال خاشقجي المنابر الإعلامية بقديمها وجديدها. كل تعرض عنفي لصحافي مرفوض ومستنكر. واهتمام الإعلام بالقضية طبيعي، لكن المتابع وجد نفسه أمام دفق هائل من الأخبار والتكهنات والسيناريوات والأحكام قد يعوق الوصول إلى الحقيقة. وإذا كان البحث عن السبق مشروعاً، فإن الحادث المؤلم كشف أن لدى الإعلام الجديد ما يتعلمه من الإعلام القديم.

ثمة فارق واضح بين البحث عن مصير خاشقجي وما تعرض له والمسارعة إلى توظيف الحادث لتصفية حسابات سياسية. فور وقوع الحادث، تقدمت جهات سياسية وإعلامية للاصطياد في بحيرته. يصعب الاعتقاد أن هاجسها كان تحري الحقيقة بمقدار ما كان استهداف السعودية قبل معرفة الوقائع وقبل اتضاح الخيوط. إن الحملة الرامية إلى تحويل ما جرى للزميل خاشقجي إلى منصة للضغط على السعودية والنيل من اقتصادها ودورها تنذر في الواقع بإطلاق أزمة لا يمكن التكهن بنتائجها. فالسعودية ليست في وارد الرضوخ للضغوط وهذا أسلوب دائم لديها. وليس من عادتها قبول إملاءات أو عقوبات من دون الرد عليها. وكان هذا واضحاً في كلام المصدر السعودي المسؤول أمس.

لدى الإعلام الجديد ما يتعلمه من الإعلام القديم. كانت المؤسسات الصحافية الراسخة شبيهة بالجامعات العريقة. لا تقبلك إلا بعد أن تخضعك لاختبارات فعلية. وكان هناك من يقرر إن كان الوافد مشروعاً صحافياً فعلياً أم أنه طارئ على المهنة بعدما تقطعت به السبل. وكان المتدرب مطالباً بالتحلي بالتواضع والطموح معاً. التواضع في الاستماع والتعلم وقبول الإرشادات والتوجيهات، والطموح في البحث عن زاوية جديدة أو موضوع جديد وربما طريقة جديدة في التعبير والمعالجة.
كانت المؤسسة الصحافية تتحصن بخبرات أجيال. حماسة الشباب وتجربة من سبقهم وحكمة من عاشوا وتمرسوا وعركوا المهنة وعركتهم. وكان الوافد يشعر بالتحدي حين يستمع إلى النقاشات الغنية في المهنة والسياسة والثقافة وأبواب أخرى. والأهم من ذلك كله أن كل تحريض على الحرية كان يتواكب مع تشديد على مسؤولية ناقل الخبر أو كاتب المقال. مسؤولية تجاه القارئ وتجاه القانون وتجاه الضمير وتجاه سمعة الشخص والمؤسسة.
كانت المؤسسات بالغة الجدية وقواعد العمل صارمة. عدم الاكتفاء بمصدر واحد لنشر الخبر. عدم نشر صورة تحرج عائلة أو تستفز مشاعر الكراهية وتشجع على الفتنة. عدم نشر الاسم الكامل لرجل يحاكم في قضية لتجنيب عائلته ردود الفعل. قواعد تحكم العمل وتتعلق بمسؤولية كاتب الخبر ومن ينشره. وكانت القاعدة الذهبية تحري الحقيقة وتحري الدقة.

درس شخصي في هذا السياق. كنت في بداية العمل الصحافي حيث يقع الكاتب في إغراء المبالغة ودفق اللغة. كتبت مقالاً عن إيميلدا ماركوس زوجة الرئيس الفلبيني التي شاع يومها أنها تمتلك ترسانة من الجواهر و2700 زوج من الأحذية. وقلت إنه لا غرابة أن تفعل السيدة الأولى ذلك ما دام زوجها سرق الشعب، وأشرت إلى الفقر الضارب في البلاد. فجأة رن الهاتف الداخلي وطلب مني مدير التحرير في جريدة «النهار» فرنسوا عقل أن أذهب إليه ووجدت المقال أمامه قبل أن يذهب إلى المطبعة. قال: «نحن صحيفة محلية ولن يزعجنا ماركوس أو يقاضينا أو يرسل توضيحاً. لن يعرف بما كتبناه عنه. لكن من أجلك أنت ومن أجل الصحيفة يجب أن تحترم القاعدة. في غياب حكم من المحكمة لا يحق لنا أن نصدر حكماً. نقول المتهم ولا نجزم». ومنذ ذلك اليوم أدركت أن الحرية لا يمكن أن تنفصل عن المسؤولية في نشر الأخبار أو كتابة المقالات.

تغيرت مهنة المتاعب وتضاعفت متاعبها وإمكاناتها في التعبير السريع والوصول إلى أماكن قصية. لست أبداً من دعاة العودة إلى الماضي أو التشبث به. لكن في زمن تحول فيه كل مواطن إلى صحافي يكتب ويصور وينشر، أستشعر الحاجة إلى تنمية تلازم الحرية مع المسؤولية رغم إدراكي صعوبة ما أدعو إليه.
عاد إلى ذهني موضوع القواعد المهنية الصارمة وأنا أتابع موضوع اختفاء الزميل جمال خاشقجي. من رافق التغطية للحادث لاحظ بالتأكيد قيام شاشات ومواقع بالقفز إلى استنتاجات قبل توافر وقائع وإصدار أحكام في غياب المعطيات الضرورية. وثمة من روّج سيناريوات مؤلمة لعائلة جمال. ولا مبالغة في القول إن وسائل إعلام قطرية اعتبرت اختفاء جمال فرصة ذهبية للنيل من السعودية التي تشهد في الآونة الأخيرة عملية تحديث وإصلاح تركت صداها الإيجابي في العالمين العربي والإسلامي.

الأكيد أن ثمة فارقاً كبيراً بين تحري الحقيقة في موضوع اختفاء جمال خاشقجي وانتهاز فرصة وقوع الحادث للانطلاق في هجوم يستهدف إضعاف السعودية، وهي ضلع عربي لا غنى عنه في عملية التوازن على مستوى الإقليم. وهي دولة يعتبر استقرارها ضرورة للاقتصاد العالمي وتنمية الاعتدال في العالمين العربي والإسلامي. وفي التعامل مع هذا النوع من الأحداث، لا بد من قدر كبير من المسؤولية والابتعاد عن سياسة تسجيل المواقف المتسرعة والمبالغات التي تهدد بإطلاق أزمات أكبر. هذا يصدق على وسائل الإعلام ويصدق أيضاً على الحكومات. لا يمكن الاستسلام إلى منطق التغريدات والصدى الذي تلقاه. والأكيد هو أن لدى الإعلام الجديد ما يتعلمه من الإعلام القديم.

نقلا عن الشرق الاوسط اللندنيه

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

اختفاء خاشقجي والحقيقة وتصفية الحسابات اختفاء خاشقجي والحقيقة وتصفية الحسابات



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 00:26 2021 الأربعاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يضيف لسجله أرقاماً قياسية جديدة

GMT 10:18 2020 الجمعة ,26 حزيران / يونيو

شوربة الخضار بالشوفان

GMT 08:15 2020 الثلاثاء ,09 حزيران / يونيو

فياريال يستعين بصور المشجعين في الدوري الإسباني

GMT 09:19 2020 الجمعة ,24 إبريل / نيسان

العالمي محمد صلاح ينظم زينة رمضان في منزله

GMT 09:06 2020 الأربعاء ,22 إبريل / نيسان

تعرف علي مواعيد تشغيل المترو فى رمضان

GMT 12:50 2019 الثلاثاء ,31 كانون الأول / ديسمبر

علالو يؤكّد الجزائر "تعيش الفترة الأهم في تاريخ الاستقلال"

GMT 04:46 2019 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

اتجاهات ديكور المنازل في 2020 منها استخدام قطع أثاث ذكي

GMT 00:42 2019 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

بدء تصوير فيلم "اهرب يا خلفان" بمشاركة سعودية إماراتية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon