توقيت القاهرة المحلي 00:09:42 آخر تحديث
  مصر اليوم -

القطار المسافر نحو الهاوية

  مصر اليوم -

القطار المسافر نحو الهاوية

بقلم - غسان شربل

قال صديقي البريطاني إنَّه حزينٌ لأنَّ الجفافَ هاجمَ بلاده. يؤلمُه عطشُ الأشجار وموتُ الأزهار. يرى أنَّ الحكومات المتعاقبة لم تقم بواجبها. كان عليها انتهاج سياسات أكثر نضجاً في التعامل مع البيئة والتغير المناخي. تنفق القوى السياسية معظمَ طاقاتها في حروب التسابق على المواقع في البرلمان والحكومة. سلوك يتَّسمُ بقدر كبير من المراهقة دفعته ديكتاتورية وسائل التواصل الاجتماعي إلى حدود التهريج. أستغرب كيف ينشغل الرأي العام بفضيحة من هنا، وهناك وينسى الأخطارَ الكبيرة المقتربة. يستهجنُ كيف تُهدَر أموالٌ هائلةٌ في مواضيع أقل إلحاحاً.
قدَّرتُ حزنَ صديقي. ما أقسى رؤية الحدائق يابسة كمخيلات مهجورة! ورؤية الغابات قبوراً شاسعة لنباتاتها. استوقفني قوله إنَّ موتَ الأشجار يذكّره بموت الناس. بالخسائر التي لا يمكن تعويضُها. هذا الموت يعمِّقُ الغربة بين الإنسان والتراب الذي يقف عليه. الأشجار رسائلُ حبٍّ من الأرض لساكنيها. الأزهار عطرٌ يرسله الترابُ لجعل الحياة أقلَ قسوة أو وحشة.
لم يكن كلامُ ساكستون هذا سوى مقدماتٍ للحديث عن مخاوفه الحقيقية والعميقة. قال: «حين تهبُّ عليك رائحةُ التسعينات لا يبقى لديك ما تخسرُه. شيَّعتُ جميعَ أصدقائي تقريباً. وشيَّعتُ رفيقةَ عمري. أنا رجلٌ وحيدٌ ينتظر موعدَه الأخير. ذاكرتي تنزف الأسماءَ والأماكن إلى غير رجعة. نسيت أسماءَ معظم السيمفونيات التي كنت أطاردُها من مدينة إلى أخرى. نسيتُ أيضاً تلك الكتب المذهلة التي كنتُ أحتفل بالإقامة بين صفحاتها. ومن يدري فقد أنسى غداً شكسبير نفسَه وفلوبير وفولتير. وحتى الذكريات القليلة التي تزورني فقدت عطرها».
لفتني كلامُ الرجل الذي أمضى عمرَه ينقّب في إبداعات الموسيقيين والكتاب، خصوصاً حين اختار تبديد العقود في المقارنة بين الروائع المكتوبة بالإنجليزية وتلك المكتوبة بالفرنسية. قال إنَّ أكثرَ ما يؤلمُه ليس اقتراب موعده مع التراب، بل الذهاب إليه يائساً.
يكره ساكستون السياسات الأميركية. يعدّها فظةً ومتقلبة وعاجزة عن فهم العالم وتعقيداته. خيبته الكبرى تأتي حالياً من روسيا التي كانَ يربطه بها خيطٌ من الودّ لأنَّها بلاد دوستويفسكي وغوغول وبوشكين وتشيخوف. كشفت له الحربُ الروسية في أوكرانيا أنَّ روسيا الكتّاب غير روسيا القياصرة وورثة ستالين.
قال ساكستون إنَّ الخوف الذي يعتريه حالياً يذكِّره بالخوف الذي استولى عليه يومَ كان يسارع إلى الاختباء من الغارات الجوية إبان الحرب العالمية الثانية. لاحظ أنَّ دويَّ المدافع على الأرض الأوكرانية يعني أوروبا بمجملها وليس فقط المسرح المباشر للحرب. قال إنَّ إقدامَ دولة على ضمِّ أجزاء من دولة مجاورة يذكِّره بتلك الأيام التي اندفعت فيها الجيوش في أكبر وليمة دموية في التاريخ: شطب الحدود الدولية، وسلخ أجزاء، وتغيير هوية الأماكن، ودفع المواطنين إلى التيه ومراكز استقبال اللاجئين. لفت إلى أنَّ الانفجار اليوغوسلافي كانَ دموياً وكثيرَ الدلالات، لكنَّه حوصر، وأقنع الأوروبيون أنفسَهم بأنَّ تلك الجريمة مجرد استثناء. اللعبة اليوم أخطر. روسيا تحاول إعدامَ أوكرانيا كدولة مستقلة، والغرب يضخُّ الأسلحة في عروق الجيش الأوكراني لاستنزاف روسيا. وفي غمرة الانهيار الكبير تقومُ بيلوسي بزيارة لتايوان أعطت التنينَ الصيني فرصة الإعلان عن قدرته على اشتباك كبير يمكن أن يُدمِي العالم ويقتل اقتصاده.
لاحظ أنَّ المأساةَ تبدأ حين تقعُ الدولُ فريسةً الخوفِ أو الذعر بفعل غياب صِمَامَاتُ الأمان الدولية. تذهب الدول سريعاً إلى تناول السمّ. تراهنُ على الجيوش لتبديد قلقها فتتضاعف فرص اندلاع النزاعات التي تأكلُ البشرَ والحجر. قال إنَّ بريطانيا تحاول الإيحاء بأنَّها قوية لكنها مضطربة. وألمانيا خائفة وفرنسا مرتبكة. ستسرق الترسانات الأموال التي كانَ يمكن أن تُنفَق في التنمية والتطوير وتحسين شروط حياة الناس. توهَّمنا أنَّ هذا العالم الذي حقَّق قفزات تكنولوجية مذهلة تعلَّم من تجاربه. توهمُنا أنَّ إنسانيته اغتنت وصار أكثر تعقلاً. المخاوف ولادة للعصبيات وأمواج التطرف ودعوات الاشتباك والطلاق.
قال ساكستون إنَّه غير واثق على الإطلاق من أنَّ لندن ستكون بعد عقد أو اثنين أفضلَ ممَّا هي حالياً. الأمر نفسه بالنسبة إلى برلين وباريس وموسكو. وسألني فجأة ما إذا كنت واثقاً أنَّ بيروت ستكون أفضلَ بعد عقد أو اثنين؟
أربكني السؤال. أنا لست واثقاً. ويمكنني الجزم بأنَّني لست واثقاً على الإطلاق. أخشى أن تكونَ بيروت قرية منسيّة تعيش على هامش العصر وترتبك بالفقراء ومَن تبقَّى من أبنائها. لا أريد التكهنَ حول مستقبل دمشق وبغداد وطرابلس وصنعاء. أبناؤها أدرى بشعابها، لكنّني لست واثقاً من أنَّ السنوات المقبلة ستكون أفضلَ من السنوات الحالية.
واضح أنَّ أوروبا فوجئت بعودة دويِّ المدافع إلى أراضيها. القلق واضح لكن دول القارة تمتلك على الأقل مؤسسات تستطيع محاسبة حكومة جانحة أو حاكم متهور. تستطيع تغييرَ الحكومة وإعادة قراءة الأحداث. تملك على الأقل مستشفيات لمعالجة الجرحى وأجهزة إطفاء لمكافحة الحرائق. بلداننا مسكينة. تقف عاريةً وخرائطها مصابة بـ«زنار النار». لا يمكن إنقاذ خريطة نُكبت بحكومات فاشلة على مدار عقود. نُكبت بسياسيين من قماشة حفّاري القبور ينقضّون على المال العام بشراهة القراصنة.
عالم يتقلَّب على المخاوف وهدير النزاعات موعود بمزيد من الجنازات واللاجئين والفقراء. الأمن مهدَّد والخبزُ أصعب. ماذا لو استيقظنا على كارثة نووية في أوكرانيا؟ وماذا لو قرر بوتين تأديبَ دولة أطلسية؟ وماذا لو قرر شي جينبينغ إنزال الجيش الصيني في تايوان؟ يحذّر هنري كيسنجر من اقتراب موعد مواجهة بالغة الخطورة بين أميركا من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى. لا نريد أن نصدّق ذلك. لكن الواضح أنَّ العالم يسلك طريق الهاوية.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

القطار المسافر نحو الهاوية القطار المسافر نحو الهاوية



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

ياسمين صبري بإطلالات أنيقة كررت فيها لمساتها الجمالية

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 16:38 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

إطلالات مختلفة تناسب قصيرات القامة من وحي منى زكي
  مصر اليوم - إطلالات مختلفة تناسب قصيرات القامة من وحي منى زكي

GMT 08:13 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

الضوء في الليل يزيد فرص الإصابة بالسكري
  مصر اليوم - الضوء في الليل يزيد فرص الإصابة بالسكري

GMT 23:07 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

أحمد رزق يتعاقد على مسلسل «سيد الناس» رمضان 2025
  مصر اليوم - أحمد رزق يتعاقد على مسلسل «سيد الناس» رمضان 2025

GMT 18:46 2017 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

دار Blancheur تعلن عن عرض مميز لأزياء المحجبات في لندن

GMT 10:03 2020 السبت ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

طريقة عمل الفاصوليا البيضاء

GMT 04:45 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الأمن المصري يكشف حقيقة اختطاف فتاة في منطقة "المعادي"

GMT 10:07 2020 السبت ,10 تشرين الأول / أكتوبر

الصحة: تسجيل 106 إصابات جديدة بـ كورونا و12 وفاة

GMT 11:56 2020 الخميس ,13 آب / أغسطس

7 أشكال غريبة لرفوف الكتب تعرفي عليها

GMT 17:04 2020 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

مستشار الرئاسة التركية ياسين أقطاي يوجه رسالة إلى مصر

GMT 08:00 2019 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سيات أتيكا 2020 في مصر رسميًا

GMT 03:29 2019 الثلاثاء ,25 حزيران / يونيو

داليا مصطفى تتعرَّض لعملية نصب وتُحذِّر الفنانين

GMT 08:30 2019 الأحد ,23 حزيران / يونيو

تصميمات "الفيونكة" تزيّن مجوهرات العروس في 2019

GMT 17:44 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

بلاغ ضد هالة صدقي بسبب فيديو "حثالة المجتمع"
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon