توقيت القاهرة المحلي 10:33:04 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«قرية» ما بعد الزلزال

  مصر اليوم -

«قرية» ما بعد الزلزال

بقلم: غسان شربل

تستيقظُ فتجدُ الكآبةَ في انتظارك. مسلسل القتل المفتوح على مصراعيه أكبر من القدرة على الاحتمال. وللأنباء الصباحية طعمُ الجنازات التي أعدَّها مطبخُ الموت على عجلٍ ليلاً في إيطاليا أو إسبانيا أو إيران أو في أماكن أخرى. الأرقام التي ينقلُها الهاتف ليست نهائية. أغلب الظَّن أنَّ هناك من ماتَ خلال تفقُّدِك أعداد من قضَوا في الساعات الماضية. لا تثق برقم وتعتبره نهائياً. ثمة جثثٌ تتَّجهُ للانضمام إلى قافلة سبقتها. شعورك أنَّك تكتبُ عن الموت وسط مذبحة مفتوحة، ومن دون إمكان الرهان على منقذ من أي نوع كان، يغمرُك بشعور عميق بالهزيمة.
تبحث عن عزاءٍ حين ترى إرادة الحياة تعبّر عن نفسها. إيطاليون يخرجون ليلاً إلى الشرفات، ويطلقون الألحان والأغاني كمن يتعمَّدُ تحدي الوحش الذي يقرع مزيداً من الأبواب ويصطاد الخائفين المقيمين خلف الجدران. تهزُّك هذه الرغبة العميقة في استفزاز القاتل المتسلسل لكنَّها تذكرك بأنَّها المرة الأولى التي يبدو فيها مواطن «القرية الكونية» عارياً ومتروكاً لمصيره. مؤلم شعور المرء أنَّه لن يستطيعَ الاحتماء إذا قرَّر الزائر الأسود أنَّ موعد اصطياده قد حان. لا جدوى من الاتصال بأحد. ويصعب أنْ يجيبَ أحد. وإن فعل سيكتفي بعبارات تشجيع مكرورة ليست بالتأكيد من النوع الذي يبدل المصائر.
كانت «القرية الكونية» واعدة على رغم خلافاتها وصراعاتها. وكانت غارقة في الأسئلة. هل انزلقنا إلى العصر الصيني أم أننا في الطريق إليه؟ وأي أميركا ستقوم إذا تقدم الهدير الآسيوي كل ما عداه؟ وهل تنكفئ أوروبا الجميلة إلى التقاعد تحت وطأة الشيخوخة والتجاعيد وروائح المتاحف والذكريات؟ وماذا عن روسيا التي يحلم سيّدها الحالي بالتفوق حتى على ستالين في طول الإقامة في قصر الأختام والأحكام؟ وماذا عن الشرق الأوسط الرهيب الذي يسعل دماً قبل أن تفدَ إليه الأوبئة؟ وعلى رغم ما تقدم كانت القرية تتطلَّعُ إلى المقبل من الأيام متسلّحة بالقفزات العملاقة في التقدم العلمي والتكنولوجي، وبانحسار الظلم أو عدد من أشكاله في أنحاء متفرقة من العالم.
ولم تكن حياة «القرية الكونية» من قماشة شهر العسل. نزاعاتها حقيقية وتنافساتها محمومة وترساناتها تتحين الفرص للتعبير عن جبروتها وأحقادها. سباقٌ محمومٌ على المناجم والموارد والأسواق، وتبادلٌ عنيفٌ للطعنات لا تخفيه رقة الابتسامات وتعابيرُ الاتفاقات. وعلى رغم التحديات، وبعض الأهوال أحياناً، كانَ هناك شعور أنَّ العالم يتقدَّم وأنَّ التكنولوجيا توفّر للإنسان سلاحاً كانَ يفتقرُ إليه في صناعة مستقبل أطفالِه.
لم يكن القلقُ غائباً. علَّمتِ التجربة أهل القرية أنَّ الأحياء المتقدمة لا يمكنها الاستقالة إلى الأبد من مصير الأحياء البائسة. وأنَّ أنانية الجزر لم تعد قابلة للعيش. وأنَّ استقرار جارك شرط لاستمرار استقرارك. والمقصود بالأحياء البائسة هي تلك التي ترتفع فيها معدلات الفقر والخرافات والأوهام، ويرخي الماضي بثقله على مدارسها وكتبها وأسلوب حياتها. هذا من دون أنْ ننسى الحكومات الفاشلة، التي تكاد جريمتها تعادل ارتكابات الحكومات القاتلة. وعلى رغم كل ذلك، بدا العالم واثقاً بقدرته على مواجهة الملفات التي تقلقه من الفقر إلى الاحتباس الحراري وغيرهما.
لم تغبِ الامتحانات القاسية عن مسيرة العالم في العقود الأخيرة. سقوط جدار برلين. وانهيار الإمبراطورية السوفياتية ولو من دون إطلاق رصاصة. اندلاع أزمات الهويات وتصاعد الإرهاب وتزايد الهجرات، وعجز دول كثيرة عن اللحاق بركب التقدم نتيجة إدمانها عقاقير وأفكاراً انتهت مدة صلاحيتها. ولا مبالغة في القول إنَّ العالم نجح، وإنْ بنسب متفاوتة، في مواجهة الأزمات الأمنية والاقتصادية التي اعترضت مسيرته. لكن الأكيد أنَّه يواجه حالياً ما هو أقسى.
ما يعيشه العالم اليوم أخطر بالتأكيد مما عاشه في العقود الماضية. قصة «كورونا» أخطر على العالم بخسائرها ومجرياتها من هجمات 11 سبتمبر (أيلول) ومن إطلالة «داعش» ومن التفكك اليوغوسلافي والانهيارات الأفريقية. إنَّها أخطر أيضاً من الأزمات المالية العالمية وآخرها ما شهده العالم في 2008 و2009.
لا نريد التقليل أبداً من حجم العواصف التي هبَّت على العالم في العقود الماضية. كانت مكلفة وتركت آثارها على المشهد الدولي واقتصادات الدول والأمن والاستقرار. لكنَّنا اليوم أمام حدث مختلف في خطورته وأثمانه وانعكاساته. لسنا في صدد عاصفة هوجاء. إننا في خضم زلزال غير مسبوق. يمكننا القول إن زلزال «كورونا» كشف هشاشة «القرية الكونية» وهز مرتكزاتها إلى حد يوحي بأن ما بعد الزلزال لن يشبه ما قبله.
لم تستطع القرية المعنية تنظيم رد موحد على الزلزال الذي دهمها. لم تتقدم القوة العظمى الوحيدة الصفوف لقيادة رد دولي موحد. انشغلت الصين بالمعركة التي بدأت على أرضها وتمكنت عبر إجراءات قاسية، يتيحها نظام الحزب الواحد الصارم أمنياً والمتقدم تكنولوجيا، من تحقيق نتائج قد تعزز لاحقاً صورتها وموقعها. لم تنجح دول القارة القديمة في تنظيم ردّ يمكن وضعه تحت الراية الأوروبية. انفرط عقد المشاعر الأوروبية سريعاً وتقدمت الحدود والمخاوف والأنانيات. لا الغرب ردّ موحياً بوجود زعامة جامعة قادرة على قيادة العالم، ولا روسيا استطاعت الصيد في هذا الزلزال على جاري عادتها في زمن العواصف. انكفأت الدول إلى حدودها وفضحت الأثقال المتسارعة ضعف مؤسساتها وميزانياتها.
إنَّنا في خضم زلزال غير مسبوق أدخل العالم في إجازة رعب إلزامية. زلزال ضربَ الأسهم وأسعار النفط وهزَّ دعائم الإمبراطوريات المالية وأغلق الأسواق والمطاعم والشوارع على امتداد «القرية الكونية». إنَّها نكبة شاملة لا يمكن إلا أنْ ترتب انعكاسات على علاقات الدول فيما بينها وعلى العلاقات داخلها أيضاً. سوابق التاريخ تشير إلى أنَّ هذا النوع من النكبات يغير أنظمة وعلاقات سياسية واقتصادية، ويسقط هالات أفكار ونظريات ويفرض تغييرات في أسلوب الحياة أيضاً.
ضرب زلزال هائل «القرية الكونية». من المبكر الجزم بالاتجاهات. ربما نشهد المزيد من دعوات الانغلاق والشعبوية والرغبة في كبح العولمة وشرايينها. الأكيد أنَّ الأزمة ستترك ملايين العاطلين عن العمل واقتصادات متصدعة وحكومات مذعورة. واضح أنَّ صفحة طويت لتبدأ صفحة أخرى أكثر صعوبة وأشد غموضاً. المهمة المطروحة لا تقلُّ عن إعادة إعمار «القرية الكونية» التي ضربَها زلزال «كورونا».

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«قرية» ما بعد الزلزال «قرية» ما بعد الزلزال



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon