توقيت القاهرة المحلي 23:03:27 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أمين معلوف مسافرٌ بجروح كثيرة

  مصر اليوم -

أمين معلوف مسافرٌ بجروح كثيرة

بقلم - غسان شربل

يحمل أمين معلوف في روحِه جروحاً كثيرة. إنَّه لبناني. ابن بلد رجراج يشبه ثمرة زواج شبه إلزامي بين أوطان صغيرة وقواميس متباينة. على شفير المتوسط وُلد معلوف. التقت في شجرة عائلته جهات ولهجات. والتقت في ثقافته جداول كثيرة. مِن والده رشدي المعلوف ورث لعنة الصحافة، وهي لعنة لمن يعتنقها مصاباً بهاجس الوصول إلى سر الأشياء. هاجس المستقبل دفع أمين إلى التنقيب في بحيرات الماضي. والمهمة مفتوحة على الأخطار. معلوف ابن هذا العالم العربي الذي رزح طويلاً تحت الإرادة العثمانية، ثم تحت وصاية الغرب. العالم العربي الذي اكتشف قبل عقود أنه مسبوق ومريض، لكنه أخطأ في اختيار العلاجات، وأمضى أيامه بلا دولة ومؤسسات. ومعلوف ابن هذا الشرق الخائف والمخيف الذي يضمد جروحه بالسحر والخرافات وتلميع الحراب.

الكاتب الكبير صحافي كبير، مهمته التقاط الإشارة الوافدة من المجتمع والناس، ثم مقارنتها والغوص فيها وامتحانها. والكاتب، كما الصحافي، جاسوسٌ حاذق يفك أزرار الأسرار ويحولها حكايات. الكاتب جاسوس يرفع تقاريره إلى ديكتاتور اسمه القارئ، وهو المحكمة الأخيرة والقاضي الأخير. يحتاج الروائي إلى قدرة الصحافي في التسلل ورفع الستائر واستنطاق الأفراد والمجموعات والمنعطفات للإمساك بخيط المصائر. ويحتاج الصحافي إلى شيء من قدرة الروائي لاستدراج القارئ إلى آخِر الحكاية، بدل تفاديها أو مغادرة القطار في منتصف الطريق. الصحافة تزوِّد الروائي بموهبة التلصّص على الأفراد والعالم، واصطياد نقاط الضعف من دون التمويه أو إخفاء الارتكابات.

الصحافة تسعف الروائي لأنَّها تضعه على التماس مع هذا النهر من التحولات الذي يصيب الأفراد والمجموعات. كان غابرييل غارسيا ماركيز صحافياً محترفاً قبل أن يدخلَ أدغال الروايات. يمكن القول إنَّه ظلَّ صحافياً حتى الرمق الأخير. هذه العين الصحافية برؤيتها الاجتماعية والسياسية والأدبية مكّنته من كهربة القاموس، وإغناء روح العالم بـ«مائة عام من العزلة»، و«خريف البطريرك». ولم يكن أمام جائزة نوبل غير أن تسقط في يد الكولومبي الرهيب الذي التقط خيوط الوجع والاستبداد ووطأة الظلم وشيخوخة الظلام.

يحرس الكتاب المدن من النسيان، كما تحرس الأشجار التربة من الانزلاق. أقصد الكاتب الذي ألقى بنفسه في النهر وتسلّل بعينيه النفاذتين إلى ما وراء الستائر والجدران. الكاتب الذي يهزّ القاموس من غفلته، ويوقظ في ممراته تلك الرؤى التي تربك الروح وتدخلها في مسار التغير والتهور. الكاتب الذي يقف أمام تاريخ بلاده حاملاً القنديل ليكتشف في التاريخ المفروض ما تمّت تغطيته من ويلات. كلما زرت إسطنبول شعرت بأنني أزور مدينة أورهان باموك، رغم ثراء ذاكرتها بالأسماء والعناوين. درس باموك العمارة والصحافة، ثم انتابته لعنة الكتابة. تحسّس جروح الأتراك والأكراد والأرمن، ولم تردعه التهديدات. وفي 2006 زارته جائزة نوبل، وأقامت في كفيه.

ساحر آخر اسمه ماريو فارغاس يوسا، جاء من بيرو. تشرَّب هذا الصحافي أهوال أميركا اللاتينية وأحزانها على غرار ما فعل صديقه «اللدود» ماركيز. وقع في إغراء باريس وروائييها ولغتها، ثم راح يكتب فيها. اجتمع الروائي والصحافي والسياسي في عمر زاهر، وتوالت العناوين «حرب نهاية العالم»، و«حفلة التيس»، وغيرها. كان من الصعب على جائزة نوبل أن تقاوم إغراء إلصاق اسمها باسمه، فكان موعدهما في 2010. ولأن الذهب لا يخدعه اللمعان، لم يدفعه مجد نوبل إلى التقاعد. ما زال يتجسّس على الحياة والأشياء، ويحوك الروايات، وما زال يكتب المقالات، وكم أبهجني يوم اتفقنا معه في «الشرق الأوسط»، ورحنا ننقل مقالاته إلى قرائها. ويقيم يوسا اليوم في «مجمع الخالدين» وهو الأكاديمية الفرنسية التي انتُخب أمين معلوف أميناً دائماً لها.

لن أجازفَ بإصدار أحكام في مسائل معقدة وتحتاج إلى التخصص. ما قلته هو انطباعات صحافي سياسي يهرب أحياناً من ملفات القسوة والفساد والفشل ليقاتل الوقت برواية قد تُغني روحه أو تضيف إلى إنسانيته. أريد أن أعبر عن اعتقادي أن معلوف البعيد جغرافياً عن منابت ماركيز ويوسا، والأقرب إلى فتى إسطنبول من حيث الجغرافيا، يجسّ ببراعة نبض التاريخ الشائك باحثاً عن مستقبل لا يشبهه. والحقيقة هي أن معلوف وُلد على خط التماس بين الحضارات والثقافات، وهاله الدم المتراكم بفعل «الهويات القاتلة». أدرك الشابُّ الذي مزّقت الحرب بلادَه أن إرث الكراهيات يتدفق بقوة من ينابيع كثيرة، وكأن الحروب القديمة لا تكتفي بضحاياها القدامى، بل تبحث دائماً عن أجيال جديدة. دخل الصحافي غابة الأشراك المنصوبة في ذاكرة المدن التائهة بين مخاوف الهويات وخنادق الشرق والغرب وكمائن العلاقات بين الأديان والحضارات والثقافات، وعاد منها بحفنة روايات تشبه حفنة شموع.

يوم شرعت له الأكاديمية الفرنسية أبوابَها قال في كلمته: «اليوم، هناك جدار في المتوسط بين الفضاءات الثقافية التي أنتمي إليها... طموحي هو المساهمة في هدمه. لطالما كان هذا هدف حياتي وكتابتي، وسأواصل السعي إليه، إلى جانبكم».

منذ بدايات عمله في صحيفة «النهار»، لفت معلوف الأنظارَ بقدرته على شمّ رائحة الماضي في الانهيارات الحالية. التفت إلى شياطين التاريخ في نزاعات الحاضر، وراح يعمّق بحثَه عن المصالحة، على قاعدة احترام الاختلاف، وتحويل التناقضات مصدر ثراء لا فرصة اشتباك. «ابتعد وطنه عنه» فسلك طريق فرنسا وقاموسها، من دون أن يسمح لهوية بطمس أخرى، وكأنه اختار جمع الجذور في حديقة روحه، رغم صعوبة المهمة. أغنى الصحافي رحلة الروائي الذي أهدى العالم «ليون الأفريقي»، و«سمرقند»، و«صخرة طانيوس»، و«غرق الحضارات»، و«الحروب الصليبية كما رآها العرب».

يحك أمين معلوف جروح التاريخ. أغلب الظن أنه يحزن حين يتابع الحرب الروسية في أوكرانيا، وازدياد عدد المسافرين في «قوارب الموت»، وصدام الهويات، وذعر الإمبراطوريات. أمين معلوف مسافر بجروح كثيرة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أمين معلوف مسافرٌ بجروح كثيرة أمين معلوف مسافرٌ بجروح كثيرة



GMT 19:45 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

‫تكريم مصطفى الفقى‬

GMT 09:09 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

صوت الذهب... وعقود الأدب

GMT 09:05 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أولويات ترمب الخارجية تتقدّمها القضية الفلسطينية!

GMT 09:04 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 09:03 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

عن تكريم الأستاذ الغُنيم خواطر أخرى

GMT 09:02 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجائزة الكبرى المأمولة

GMT 09:00 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تنظيم «الإخوان» ومعادلة «الحرية أو الطوفان»

GMT 08:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

لأميركا وجهان... وهذا وجهها المضيء

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 19:11 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

حزب الله يعلن قصف قاعدة عسكرية في جنوب إسرائيل لأول مرة
  مصر اليوم - حزب الله يعلن قصف قاعدة عسكرية في جنوب إسرائيل لأول مرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 20:50 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

منة شلبي تقدم شمس وقمر في موسم الرياض
  مصر اليوم - منة شلبي تقدم شمس وقمر في موسم الرياض

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 10:24 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 09:20 2024 الخميس ,08 شباط / فبراير

نصائح لعرض المنحوتات الفنية في المنزل

GMT 04:36 2024 الإثنين ,14 تشرين الأول / أكتوبر

فئات مسموح لها بزيارة المتحف المصري الكبير مجانا

GMT 15:44 2021 الجمعة ,22 تشرين الأول / أكتوبر

تفاصيل حوار باتريس كارتيرون مع رزاق سيسيه في الزمالك

GMT 06:24 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

رينو 5 الكهربائية الجديدة تظهر أثناء اختبارها

GMT 08:54 2017 الأربعاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

نادية عمارة تحذر الأزواج من مشاهدة الأفلام الإباحية

GMT 00:03 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

كيت ميدلتون ترسل رسالة لنجمة هندية بعد شفائها من السرطان

GMT 07:36 2024 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

ياسمين صبري تتألق بالقفطان في مدينة مراكش المغربية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon