توقيت القاهرة المحلي 22:47:19 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الرجل الذي فاجأ بوتين

  مصر اليوم -

الرجل الذي فاجأ بوتين

غسان شربل
بقلم - غسان شربل

الصدفة التي استدعت فولوديمير زيلينسكي إلى منعطف كبير فعلت ذلك من قبل. بعد الاستدعاء تتوقف القصة على براعة الرجل وإرادته كي يصنع صورته وقصته. وأحياناً يرفع رجل أعزل سبابته في وجه إمبراطورية فيحرجها ويؤلمها ويذهب معها إلى التاريخ. ويمكن أن يسقط الرجل في الامتحان إذا اختار أسهل السبل وهي الانحناء أو السلامة والابتعاد. ويحدث أن يلتقط اللحظة كالصياد الماهر فيسدد في الوقت الملائم فيربح حتى لو هُزم أو تمكنت الطريدة من الإفلات.
ذات يوم كنت أحاور حازم جواد، الرجل الذي قاد «البعث» العراقي إلى السلطة في 1963. سألني إن كنت أعرف أن كل هالة صدام حسين بدأت بمحض الصدفة. ولأنني لم أكن أعرف روى لي. قال إن نواة من قيادة الحزب بزعامة فؤاد الركابي قررت في عام 1959 اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم. تم اختيار الفريق المكلف بالتنفيذ والمكان. قبل وقت قصير من الموعد المحدد قرر أحد أعضاء الفريق عدم المشاركة. ولملء الفراغ رشح أحد المشاركين شاباً هادئاً صلباً وقليل الكلام، اسمه صدام حسين. سارع صدام وشارك وأصيب. فر بعد المحاولة الفاشلة إلى وكر حزبي. وتقول الحكايات إنه استخدم شفرة لنزع الرصاصة من ساقه. ونجح بعد ذلك في المغادرة إلى سوريا، ومنها إلى مصر. مجرد مصادفة. لكن الحادث أعطى صدام صورة وشرعية في الحزب، استخدمهما لاحقاً في صعوده.
حين ولد زيلينسكي في العام 1978، كان شاباً في السادسة والعشرين اسمه فلاديمير بوتين يستكمل في الردهات الغامضة لعالم الـ«كي جي بي» تدريباته على العيش باسم مستعار والكتابة بالحبر السري وإتقان التضليل والبراعة في الإفلات من المطاردين. وأغلب الظن أن الشاب السوفياتي لم يكن يحلم بأكثر من ترقيات في الجهاز الذي كان مكلفاً سرقة أسرار الغرب وتجنيد الجواسيس أو اكتشافهم. ولم يدرِ في خلد الشاب أن الإمبراطورية العظيمة ستتفكك وأن الجمهوريات التي كانت محشورة في القفص السوفياتي ستسارع إلى تبديل قواميسها وثيابها وستبوح بحبها للغرب. وحين قفزت أوكرانيا من القطار السوفياتي كان زيلينسكي صبياً في الثالثة عشرة يحب تقليد الممثلين وإضحاك أقرانه. وفي تلك الأيام، استدعت الصدفة أنجيلا ميركل لتشق طريقها إلى مقر المستشارية بعدما ألقت ألمانيا الشرقية بنفسها في حضن الوطن الأم.
شهد بوتين من دريسدن انهيار جدار برلين. كان انخرط في العمود الفقري للنظام الذي دهمته الشيخوخة في الثمانينات بعد إقامة ليونيد بريجنيف الطويلة وتعاقب الجنازات في الكرملين.
لم يفعل زيلينسكي شيئاً من هذا. أحب التمثيل. وأغراه دور المهرج. ولم يشعر مرة أن التاريخ يهم باستدعائه وأن عليه الاستعداد للقيادة عند المنعطفات.
لم يكن هناك ما يدفع إلى الاعتقاد أن القدر سيستدعي الرجلين إلى مبارزة على حلبة دامية. مبارزة لا تمس نتائجها فقط صورة الرجلين وبلديهما، بل أمن العالم وتوازناته واقتصاده. ففي بدايات القرن كان بوتين منهمكاً بتضميد جروح «الروح الروسية» وترميم هيبة «الجيش الأحمر» وترويض المقاطعات وبارونات الانهيار الكبير. وفي تلك الأيام أسس زيلينسكي فريقاً ناجحاً للإنتاج التلفزيوني أسماه «كفارتال 95». وحين كان سيد الكرملين يغذي سراً حلمه بالثأر ممن دفعوا جدار برلين وإمبراطورية لينين إلى الهاوية، كان زيلينسكي منهمكاً بتدبيج مضامين ترفيهية ناجحة لمسلسلات تلفزيونية اجتماعية ساخرة ومسلية. ولما راح بوتين يلاعب قادة الغرب ويسخر من تساقطهم بفعل ضجر الديمقراطيات من رجالها ووطأة وسائل التواصل الاجتماعي، كان زيلينسكي لا يحلم بأكثر من الانتقال من المسرح إلى الشاشة. حتى حين تزايد اقتناع بوتين أن روح الأمة استدعته وكلفته مهمة تاريخية مقدسة، كان زيلينسكي منهمكاً برفع نسبة المشاهدين.
عندما استرجع بوتين شبه جزيرة القرم في 2014، لم يكن العالم يعرف شيئاً عن زيلينسكي، ولم يكن مضطراً. وحين أنزل سيد الكرملين في السنة التالية قواته في سوريا، كان الممثل الأوكراني يأسر المشاهدين بدوره في الموسم الأول من مسلسل «خادم الشعب». في المسلسل، جسّد زيلينسكي دور مدرس تاريخ بسيط تسلق السلم الاجتماعي تدريجياً حتى صار رئيساً للجمهورية بعد استخدام كلمات نابية ضد الفساد. وفي 2018 وبعد نجاح المسلسل، قرر زيلينسكي الانخراط في السياسة. وفي السنة التالية حملته الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي إلى قصر الرئاسة. واللافت أن السيد الرئيس بذل جهداً لتحسين لغته الأوكرانية، ذلك أنه ولد في منطقة أوكرانية يتحدث معظم سكانها الروسية.
لم يكن الانضمام إلى حلف «الناتو» مشروعاً ملحاً بالنسبة إلى الرئيس الذي قال إن الخطوة يجب أن يسبقها استفتاء. وكان من الصعب عليه معالجة الجروح الانفصالية في الخريطة، لأن طريق الحل تمر في موسكو.
الصدفة التي دفعت زيلينسكي إلى قصر الرئاسة أوقعته في منعطف شديد الخطورة. كان معظم العواصم تعتقد أن مناورات الجيش الروسي لن تتعدى التخويف لانتزاع تنازلات. ولم يصدق كثيرون ما راحت واشنطن تردده عن «الغزو الوشيك» مرفقاً بالمواعيد. لكن القيصر فعلها، وأوقع نفسه وبلاده والعالم في أكثر الأزمات تعقيداً بعد الحرب العالمية الثانية.
بعد انطلاق الهجوم الروسي كان باستطاعة رجل واحد إنقاذ أوروبا والعالم من عودة أشباح الحرب العالمية الثانية. كان باستطاعته إنقاذ القيصر وصورته وبلاده. كان زيلينسكي يحتاج إلى استيلاء الخوف على روحه وجسده ليسلم بشروط موسكو، أو أن يغادر ليترك لرجل آخر مهمة توقيع ما يشبه الاستسلام. وربما كان يمكن أن ينقذ القيصر لو قُتل في الطلقات الأولى وقفز الجيش لتطبيق الحل الروسي كما اشتهى بوتين. لم يفعل. فاجأ مواطنيه وفاجأ العالم. بالقميص الزيتوني أطل. قال للزعماء الغربيين المتصلين إنه يحتاج «إلى ذخائر، لا إلى بطاقة سفر». سخر الرئيس اليهودي من حديث بوتين عن مطاردة النازيين. أحرج البيت الأبيض وكل زعماء الغرب. أوقع صورة بوتين في النار التي أضرمها ومشاهد البيوت المحروقة وقوافل اللاجئين. اكتسب زيلينسكي شرعية المقاومة، وتحول بطلاً في نظر كثير من مواطنيه. بتصريحاته التي تذكر الغرب بمسؤولياته والخطر الذي يحدق بجيران بلاده، بدا زيلينسكي في صورة من يطلق النار على «فلاديمير الكبير» الذي لا يفتقر إلى صورة البطل لدى جمهور واسع في بلاده.
نادته الصدفة فذهب إلى موعده مع التاريخ. سيكون حاضراً حين يتحدث التاريخ عما فعله الرجل الذي جلس على عرش بطرس الأكبر وأطلق الانقلاب الكبير على العالم الذي اغتال الاتحاد السوفياتي وحرك بيادقه لتطويق بلاد ستالين.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الرجل الذي فاجأ بوتين الرجل الذي فاجأ بوتين



GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 23:01 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

ستارمر والأمن القومي البريطاني

GMT 22:55 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حول الحرب وتغيير الخرائط

إطلالات عملية ومريحة للنجمات في مهرجان الجونة أبرزها ليسرا وهند صبري

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 02:55 2024 الإثنين ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أبرز قصات فساتين الزفاف الهالتر الرائجة في 2025
  مصر اليوم - أبرز قصات فساتين الزفاف الهالتر الرائجة في 2025

GMT 18:09 2024 الإثنين ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

بانكوك وجهة سياحية أوروبية تجمع بين الثقافة والترفيه
  مصر اليوم - بانكوك وجهة سياحية أوروبية تجمع بين الثقافة والترفيه

GMT 08:32 2024 الإثنين ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

غوتيريس "قلق جدا" لوجود قوات كورية شمالية في روسيا
  مصر اليوم - غوتيريس قلق جدا لوجود قوات كورية شمالية في روسيا

GMT 21:23 2024 الإثنين ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

السيسي يستقبل البرهان ويؤكد على ضرورة وقف إطلاق النار
  مصر اليوم - السيسي يستقبل البرهان ويؤكد على ضرورة وقف إطلاق النار

GMT 17:24 2024 الإثنين ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة حديثة تكشف صلة محتملة بين الاكتئاب وارتفاع حرارة الجسم
  مصر اليوم - دراسة حديثة تكشف صلة محتملة بين الاكتئاب وارتفاع حرارة الجسم

GMT 07:55 2024 الإثنين ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

نتنياهو يحدد 3 مفاتيح لاستعادة الأمن في شمال إسرائيل
  مصر اليوم - نتنياهو يحدد 3 مفاتيح لاستعادة الأمن في شمال إسرائيل

GMT 21:27 2024 الخميس ,24 تشرين الأول / أكتوبر

محمد صلاح خارج سباق المنافسة على جائزة أفضل لاعب أفريقي

GMT 07:36 2024 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

ياسمين صبري تتألق بالقفطان في مدينة مراكش المغربية

GMT 13:13 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

نظام غذائي مستلهم من الصيام لتحسين صحة الكلى

GMT 13:55 2018 السبت ,06 تشرين الأول / أكتوبر

الهلال يستضيف الزمالك في ليلة السوبر السعودي المصري

GMT 12:19 2018 الإثنين ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مصر تحصد 31 ميدالية متنوعة مع ختام بطولتي الرماية

GMT 06:22 2024 الجمعة ,09 آب / أغسطس

عمرو أديب يحذر من فيلم سبايدر مان الجديد

GMT 11:18 2019 الثلاثاء ,20 آب / أغسطس

اهمية تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى مصر

GMT 22:37 2019 الإثنين ,18 آذار/ مارس

" ابو العروسة " والعودة للزمن الجميل

GMT 00:36 2019 الخميس ,31 كانون الثاني / يناير

برشلونة يقسو على إشبيلية وميسي يُسجِّل في الوقت الضائع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon