توقيت القاهرة المحلي 16:35:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

حوار الجميلي والجروح والشجون

  مصر اليوم -

حوار الجميلي والجروح والشجون

بقلم - غسان شربل

بعدَ نشرِ حلقاتِ الحوار مع سالم الجميلي، مديرِ شعبة أميركا في مخابرات النظام العراقي السابق، تلقَّيت رسائلَ عتبٍ واستفساراتٍ كانَ أهمُّها بالنسبة لي تلك التي تحدَّثت عن تسبُّبِ الوقائع التي أوردَها «في إيقاظ جروح» أو «تجديد مخاوف». ولا شيء يحرج الصحافي مثل القول إنَّ حواراتِه جدَّدت آلامَ عائلةٍ اسْتُهدفَ أحدُ أفرادِها أو أنَّها أعادت إطلاق مخاوفِ ملاحقين أو متقاعدين.

تلقيت اتصالاً من ضابطٍ سابق عمل في الجهاز نفسه. اعتبر أنَّ الحلقاتِ تعطيه حق الرد والتوضيح ومن دون ذكر اسمِه لاعتبارات أمنية. قال: «أنا لا أشكّك في أقوال الجميلي. وما رواه يعرفه عددٌ من ضباط الجهاز. وهو لا يعتبر سراً بالنسبة إلى أجهزة الدول التي استولت على ما تيسَّر لها من الأرشيف الضخم للمخابرات العراقية، وأقصد تحديداً أميركا وإيران. ثم إنَّ سلطات الاحتلال الأميركي حقَّقت طويلاً وبقسوة مع من اعتقلتهم من الجهاز، وقد أعدم بعضهم ومات آخرون بفعل المرض وسُجن فريق ثالث مدداً طويلة. والأكيد أن الأجهزة الأميركية تعرف معظم ما قاله الجميلي فهي سجنته وحققت معه».

وأضاف: «سالم الجميلي كان رئيساً لشعبة أميركا ولم يكن يوماً مشاركاً في العمليات الخارجية سواء تعلقت بتفجيرات أو اغتيالات، ولم يكن صاحبَ قرار في التخطيط أو التنفيذ، فقد كان عمله مختلفاً. كان أفضل لو ترك الجميلي للمعنيين مباشرة بهذه المسائل أن يتحدثوا عنها حين تتوافر بيئة أمنية لا تشكل تهديداً لمن عمل في الجهاز لمجرد أنَّه عمل فيه. ثم إنَّ الضرباتِ التي كان الجهاز يوجّهها جاءت في سياق تبادل الضربات مع الطرف الآخر، وهو ما لم تركز عليه الحوارات».

أوضح الرجل أنَّ «النظام اعتبر سياسةَ إيران الرامية إلى تصدير الثورة تهديداً لوحدة العراق ووجوده، وكان على جهاز المخابرات أن يخوضَ المعركةَ بكل ما لديه من قوة. ثم إنَّ ما حصل بعد الغزو من عمليات تنكيل وتهجير وتغيير ملامح مناطق يؤكد أنَّ الخطر كان وجودياً بالفعل. كان النظامُ يدرك بالتأكيد أنَّ إيران دولة ذاتُ ثقلٍ سكاني ولديها جيش كبير، لكن تحرشاتِها به ونوايا الخميني حيال النظام لم تترك للعراق أيَّ خيار آخر».

وختم كلامَه قائلاً: «قد لا توافقون على نشر ردّي هذا، لكن رأيت من حقّي أن أبديَ رأيي. أنا أعرف أنَّ الصحافي يبحث دائماً عن موضوع مثير، لكنَّ بعضَ المواضيع المثيرة قد تكون موجعةً، وربما لا يجوز التحدّثُ بها قبل عقود وتَوَارِي ذوي الأشخاص الذين كانوا في عِداد الضحايا، والأمر نفسه بالنسبة إلى عائلات المنفذين الذين قد يدفعون الثمن».

نشرت «الشرقُ الأوسط» الحوارَ في طبعتها الورقية ومنصاتها وفق قواعدَ صارمةٍ تلزم بها جميع العاملين فيها على اختلاف مواقعهم. وهي بالتالي تتحمَّل مسؤوليةَ ما نشرت، لكنَّها غيرُ معنيةٍ بما دار على وسائل التواصل الاجتماعي من تعليقات وتفسيرات، خصوصاً أنَّ هذا العالمَ يضجُّ أحياناً بالكراهيات والفبركات بعيداً عن أي ضوابط. والغريب أن تذهب بعض المخيلات بعيداً في تفسير أسباب الحوار وتوقيته وأهدافه.

غابَ عن ذهن بعض المشككين أنَّ هذا الحوار جزء من سلسلة اسمها «يتذكَّر» كنت بدأت العمل فيها قبل أكثر من عقدين، وشملت سياسيين وأمنيين ولم تغلق الباب أحياناً أمام مطلوبين. غرض السلسلة جمع حوارات على لسان المعنيين بمحطات ومنعطفات قبل تواريهم. غرضها أيضاً توفير اعترافات قد تسعف من سيتصدّون لاحقاً لكتابة قصة هذه المرحلة الصاخبة التي عشناها، والتي لم تقتصر ممارسة العنف الأقصى فيها على المخابرات العراقية وحدها. ولا أبالغ إن قلت إنَّني نشرت على لسان من كانوا في خيمة معمر القذافي أو قربها وقائعَ تفوق في قسوتها ما نُشر على لسان الجميلي. هذا عملٌ صحافيٌّ بحتٌ يوفر خصوصاً للأجيال الجديدة فرصةَ التعرفِ على مناخات وممارسات أدَّت إلى تصدّع كياناتٍ وأنهارٍ من الدم.

لن نستطيعَ الفرارَ إلى الأبد من تاريخِنا لأنَّه مبقَّعٌ بالدم والاغتيالات. لن نخرجَ من غابة الظلم والظلام إذا استسلمنا لعقدة الخوف من المثول أمام المرايا التي تذكرنا بملامح مجتمعاتنا، خصوصاً حين تسلّم مصيرَها إلى قساةٍ أو موتورين أو مذعورين أو مجروحين. لا تخرج المجتمعات من شياطين ذاكرتِها بالخوف والتخفي والصمت والتستر. ثم إنَّنا لا نلعب دورَ المحكمة وليس من همومِنا القيام بعملية تجريم أو تلميع. إنَّها مجرد عملية مثول أمام القارئ والمتصفح وله يعود أن يحكم أو يدحض أو يقلب الصفحة.

عاشت دول كثيرة فصولاً قاسيةً كالتي عاشها العراق. عالجت جروح الماضي بروح المصارحة والمصالحة والعدالة وضمان قيام مؤسسات تحول دون تَكرارِ عهود الارتكابات. تحدَّثت هذه الدول عن مآسي الماضي لتمنع أن يحمل المستقبل بصماتها وثاراتها. وأريد أن أسجّلَ هنا أنَّني أتابع بتقديرٍ شجاعةَ بعضِ الصحافيين العراقيين الذين تصدّوا لهذه المواضيع الصعبة بدلاً من دفعها إلى متاحف النسيان.

أعرف أيضاً أنَّ تاريخ العراق يرشح دماً. وأنَّ ممارساتٍ فظةً طبعت عقوداً بكاملها، وأنَّ لغةَ القسوةِ التي اعتمدها النظام السابق لم تغب عن ممارسات بعض خصومه إثر سقوطه. أعرف أيضاً أنَّ التنقيبَ في بعض الملفات الشائكة يثير قلقَ بعضِ المقيمين الخائفين وراء الستائر المغلقة، أو الذين يحصون الأيامَ تحت وطأة المنفى والذكريات وتجاعيدِ العمر. لا تعالج هذه الجروح العميقة بمراهمِ التكتم والنسيان. لا بدَّ من فتح الدفاتر بعيداً عن رائحة الثأر وتوظيف الأوجاع في إنجاب مزيدٍ منها.

كانت حلقاتُ الجميلي كما سابقاتها مجردَ عملٍ صحافي ينطلق من حق القارئ أن يعرفَ أكثر عن بلاده أو البلاد التي تعنيه. لم يكن الجميلي ضابطاً منفذاً في العمليات التي تحدَّث عنها. روَى ما عرفه خلال عملِه في الجهاز وما سمعه. وأتمنَّى ألا تكون الوقائع ساهمت في فتحِ جروحٍ أو إيقاظِ مخاوف.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حوار الجميلي والجروح والشجون حوار الجميلي والجروح والشجون



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 10:52 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
  مصر اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 16:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
  مصر اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 10:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية
  مصر اليوم - واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية

GMT 01:58 2021 الأربعاء ,01 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تربح 31.4 مليار جنيه خلال شهر أغسطس

GMT 23:21 2020 الأربعاء ,26 آب / أغسطس

بورصة بيروت تغلق على تحسّن بنسبة 0.37%

GMT 13:08 2020 الإثنين ,24 شباط / فبراير

7 قواعد للسعادة على طريقة زينة تعرف عليهم

GMT 01:27 2018 الإثنين ,26 شباط / فبراير

باحثون يؤكدون تقلص عيون العناكب الذكور بنسبة 25%

GMT 15:46 2018 الأربعاء ,07 شباط / فبراير

كارل هاينز رومينيجه يشيد بسياسة هاينكس

GMT 12:17 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

Mikyajy تطلق أحمر شفاه لعاشقات الموضة والتفرد

GMT 16:48 2018 الخميس ,25 كانون الثاني / يناير

المقاصة يسعى لاستعادة الانتصارات أمام الانتاج

GMT 14:39 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

"ثقافة أبوقرقاص" تنظم فعاليات في قرية الكرم وقصر الإبداع

GMT 01:22 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

العسيلي والليثي يطرحان أغنيتهما الجديدة "خاينة"

GMT 19:11 2015 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

مركز "محمود مختار" يستضيف معرض الفنان وليد ياسين

GMT 03:33 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

دار VIDA للمجوهرات تطرح مجموعة جديدة لامرأة الأحلام
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon