توقيت القاهرة المحلي 00:09:42 آخر تحديث
  مصر اليوم -

حوار الجميلي والجروح والشجون

  مصر اليوم -

حوار الجميلي والجروح والشجون

بقلم - غسان شربل

بعدَ نشرِ حلقاتِ الحوار مع سالم الجميلي، مديرِ شعبة أميركا في مخابرات النظام العراقي السابق، تلقَّيت رسائلَ عتبٍ واستفساراتٍ كانَ أهمُّها بالنسبة لي تلك التي تحدَّثت عن تسبُّبِ الوقائع التي أوردَها «في إيقاظ جروح» أو «تجديد مخاوف». ولا شيء يحرج الصحافي مثل القول إنَّ حواراتِه جدَّدت آلامَ عائلةٍ اسْتُهدفَ أحدُ أفرادِها أو أنَّها أعادت إطلاق مخاوفِ ملاحقين أو متقاعدين.

تلقيت اتصالاً من ضابطٍ سابق عمل في الجهاز نفسه. اعتبر أنَّ الحلقاتِ تعطيه حق الرد والتوضيح ومن دون ذكر اسمِه لاعتبارات أمنية. قال: «أنا لا أشكّك في أقوال الجميلي. وما رواه يعرفه عددٌ من ضباط الجهاز. وهو لا يعتبر سراً بالنسبة إلى أجهزة الدول التي استولت على ما تيسَّر لها من الأرشيف الضخم للمخابرات العراقية، وأقصد تحديداً أميركا وإيران. ثم إنَّ سلطات الاحتلال الأميركي حقَّقت طويلاً وبقسوة مع من اعتقلتهم من الجهاز، وقد أعدم بعضهم ومات آخرون بفعل المرض وسُجن فريق ثالث مدداً طويلة. والأكيد أن الأجهزة الأميركية تعرف معظم ما قاله الجميلي فهي سجنته وحققت معه».

وأضاف: «سالم الجميلي كان رئيساً لشعبة أميركا ولم يكن يوماً مشاركاً في العمليات الخارجية سواء تعلقت بتفجيرات أو اغتيالات، ولم يكن صاحبَ قرار في التخطيط أو التنفيذ، فقد كان عمله مختلفاً. كان أفضل لو ترك الجميلي للمعنيين مباشرة بهذه المسائل أن يتحدثوا عنها حين تتوافر بيئة أمنية لا تشكل تهديداً لمن عمل في الجهاز لمجرد أنَّه عمل فيه. ثم إنَّ الضرباتِ التي كان الجهاز يوجّهها جاءت في سياق تبادل الضربات مع الطرف الآخر، وهو ما لم تركز عليه الحوارات».

أوضح الرجل أنَّ «النظام اعتبر سياسةَ إيران الرامية إلى تصدير الثورة تهديداً لوحدة العراق ووجوده، وكان على جهاز المخابرات أن يخوضَ المعركةَ بكل ما لديه من قوة. ثم إنَّ ما حصل بعد الغزو من عمليات تنكيل وتهجير وتغيير ملامح مناطق يؤكد أنَّ الخطر كان وجودياً بالفعل. كان النظامُ يدرك بالتأكيد أنَّ إيران دولة ذاتُ ثقلٍ سكاني ولديها جيش كبير، لكن تحرشاتِها به ونوايا الخميني حيال النظام لم تترك للعراق أيَّ خيار آخر».

وختم كلامَه قائلاً: «قد لا توافقون على نشر ردّي هذا، لكن رأيت من حقّي أن أبديَ رأيي. أنا أعرف أنَّ الصحافي يبحث دائماً عن موضوع مثير، لكنَّ بعضَ المواضيع المثيرة قد تكون موجعةً، وربما لا يجوز التحدّثُ بها قبل عقود وتَوَارِي ذوي الأشخاص الذين كانوا في عِداد الضحايا، والأمر نفسه بالنسبة إلى عائلات المنفذين الذين قد يدفعون الثمن».

نشرت «الشرقُ الأوسط» الحوارَ في طبعتها الورقية ومنصاتها وفق قواعدَ صارمةٍ تلزم بها جميع العاملين فيها على اختلاف مواقعهم. وهي بالتالي تتحمَّل مسؤوليةَ ما نشرت، لكنَّها غيرُ معنيةٍ بما دار على وسائل التواصل الاجتماعي من تعليقات وتفسيرات، خصوصاً أنَّ هذا العالمَ يضجُّ أحياناً بالكراهيات والفبركات بعيداً عن أي ضوابط. والغريب أن تذهب بعض المخيلات بعيداً في تفسير أسباب الحوار وتوقيته وأهدافه.

غابَ عن ذهن بعض المشككين أنَّ هذا الحوار جزء من سلسلة اسمها «يتذكَّر» كنت بدأت العمل فيها قبل أكثر من عقدين، وشملت سياسيين وأمنيين ولم تغلق الباب أحياناً أمام مطلوبين. غرض السلسلة جمع حوارات على لسان المعنيين بمحطات ومنعطفات قبل تواريهم. غرضها أيضاً توفير اعترافات قد تسعف من سيتصدّون لاحقاً لكتابة قصة هذه المرحلة الصاخبة التي عشناها، والتي لم تقتصر ممارسة العنف الأقصى فيها على المخابرات العراقية وحدها. ولا أبالغ إن قلت إنَّني نشرت على لسان من كانوا في خيمة معمر القذافي أو قربها وقائعَ تفوق في قسوتها ما نُشر على لسان الجميلي. هذا عملٌ صحافيٌّ بحتٌ يوفر خصوصاً للأجيال الجديدة فرصةَ التعرفِ على مناخات وممارسات أدَّت إلى تصدّع كياناتٍ وأنهارٍ من الدم.

لن نستطيعَ الفرارَ إلى الأبد من تاريخِنا لأنَّه مبقَّعٌ بالدم والاغتيالات. لن نخرجَ من غابة الظلم والظلام إذا استسلمنا لعقدة الخوف من المثول أمام المرايا التي تذكرنا بملامح مجتمعاتنا، خصوصاً حين تسلّم مصيرَها إلى قساةٍ أو موتورين أو مذعورين أو مجروحين. لا تخرج المجتمعات من شياطين ذاكرتِها بالخوف والتخفي والصمت والتستر. ثم إنَّنا لا نلعب دورَ المحكمة وليس من همومِنا القيام بعملية تجريم أو تلميع. إنَّها مجرد عملية مثول أمام القارئ والمتصفح وله يعود أن يحكم أو يدحض أو يقلب الصفحة.

عاشت دول كثيرة فصولاً قاسيةً كالتي عاشها العراق. عالجت جروح الماضي بروح المصارحة والمصالحة والعدالة وضمان قيام مؤسسات تحول دون تَكرارِ عهود الارتكابات. تحدَّثت هذه الدول عن مآسي الماضي لتمنع أن يحمل المستقبل بصماتها وثاراتها. وأريد أن أسجّلَ هنا أنَّني أتابع بتقديرٍ شجاعةَ بعضِ الصحافيين العراقيين الذين تصدّوا لهذه المواضيع الصعبة بدلاً من دفعها إلى متاحف النسيان.

أعرف أيضاً أنَّ تاريخ العراق يرشح دماً. وأنَّ ممارساتٍ فظةً طبعت عقوداً بكاملها، وأنَّ لغةَ القسوةِ التي اعتمدها النظام السابق لم تغب عن ممارسات بعض خصومه إثر سقوطه. أعرف أيضاً أنَّ التنقيبَ في بعض الملفات الشائكة يثير قلقَ بعضِ المقيمين الخائفين وراء الستائر المغلقة، أو الذين يحصون الأيامَ تحت وطأة المنفى والذكريات وتجاعيدِ العمر. لا تعالج هذه الجروح العميقة بمراهمِ التكتم والنسيان. لا بدَّ من فتح الدفاتر بعيداً عن رائحة الثأر وتوظيف الأوجاع في إنجاب مزيدٍ منها.

كانت حلقاتُ الجميلي كما سابقاتها مجردَ عملٍ صحافي ينطلق من حق القارئ أن يعرفَ أكثر عن بلاده أو البلاد التي تعنيه. لم يكن الجميلي ضابطاً منفذاً في العمليات التي تحدَّث عنها. روَى ما عرفه خلال عملِه في الجهاز وما سمعه. وأتمنَّى ألا تكون الوقائع ساهمت في فتحِ جروحٍ أو إيقاظِ مخاوف.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حوار الجميلي والجروح والشجون حوار الجميلي والجروح والشجون



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

ياسمين صبري بإطلالات أنيقة كررت فيها لمساتها الجمالية

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 16:38 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

إطلالات مختلفة تناسب قصيرات القامة من وحي منى زكي
  مصر اليوم - إطلالات مختلفة تناسب قصيرات القامة من وحي منى زكي

GMT 23:07 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

أحمد رزق يتعاقد على مسلسل «سيد الناس» رمضان 2025
  مصر اليوم - أحمد رزق يتعاقد على مسلسل «سيد الناس» رمضان 2025

GMT 18:46 2017 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

دار Blancheur تعلن عن عرض مميز لأزياء المحجبات في لندن

GMT 10:03 2020 السبت ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

طريقة عمل الفاصوليا البيضاء

GMT 04:45 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الأمن المصري يكشف حقيقة اختطاف فتاة في منطقة "المعادي"

GMT 10:07 2020 السبت ,10 تشرين الأول / أكتوبر

الصحة: تسجيل 106 إصابات جديدة بـ كورونا و12 وفاة

GMT 11:56 2020 الخميس ,13 آب / أغسطس

7 أشكال غريبة لرفوف الكتب تعرفي عليها

GMT 17:04 2020 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

مستشار الرئاسة التركية ياسين أقطاي يوجه رسالة إلى مصر

GMT 08:00 2019 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سيات أتيكا 2020 في مصر رسميًا

GMT 03:29 2019 الثلاثاء ,25 حزيران / يونيو

داليا مصطفى تتعرَّض لعملية نصب وتُحذِّر الفنانين

GMT 08:30 2019 الأحد ,23 حزيران / يونيو

تصميمات "الفيونكة" تزيّن مجوهرات العروس في 2019

GMT 17:44 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

بلاغ ضد هالة صدقي بسبب فيديو "حثالة المجتمع"
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon