توقيت القاهرة المحلي 17:55:24 آخر تحديث
  مصر اليوم -

حارس «أملاك» بطرس الأكبر

  مصر اليوم -

حارس «أملاك» بطرس الأكبر

بقلم - غسان شربل

يحفر الحاكمُ القوي في التاريخ. ينقّبُ عن نبع، أو سيف، أو غطاء. فلاديمير بوتين يحفر. يبحث عن غلالة شرعية للانقلاب الكبير الذي أطلقه عبرَ الحريق الأوكراني. انقلاب على عالم القطب الواحد. على القوة العظمى الوحيدة سيدة الأساطيل. على الدولار أكبرِ جنرالاتها وأعنفِهم. على النموذج الغربي وجاذبيته. على الثورات الملونة والمجتمع المدني.
كان من الصعب على بوتين أن يستعيرَ شرعية انقلابه من ستالين أو لينين. يحتاج إلى جد أكثر التصاقاً بالروح الروسية وحلم الإمبراطورية. يمكن القول إنَّه عثر عليه. إنَّه بطرس الأكبر باني الإمبراطورية والبحرية الذي أخضعَ الأراضي المجاورة والبحار القريبة. يتلاعب سيد الكرملين بإرث أبرز نجوم التاريخ الروسي. يستعير منه طبعَ المحارب وروحَ الإمبراطور ويتنكّر لرغبته في التعلم من الغرب واستعارة أسباب التقدم منه.
لا تحتاج الحرب الروسية في أوكرانيا إلى ما يؤكّد خطورتها الاستثنائية. إنَّها حربٌ تشنّها دولة كبرى تمتلك علاوة على الترسانة النووية الهائلة مقعدَ العضوية الدائمة في مجلس الأمن. وهي أيضاً الدولة التي وُلدت من ركام الإمبراطورية السوفياتية وتتصرَّف منذ ذلك التاريخ بشعور المغبون والمجروح. ثم إنَّها حرب تدور على الأرض الأوروبية، ويتواجه فيها السلاح الروسي مع السلاح الأطلسي الذي يحاول إنقاذ الجيش الأوكراني من هزيمة ساحقة تدفعه إلى استسلام كامل. يضاف إلى ذلك أنَّها حرب تتضمَّن تحريك سلاحَي الطاقة والغذاء وتنذر بتجويع ملايين الأشخاص، وإطلاق أزمة اقتصادية عالمية. ولعلَّ العنصر الجديد الأخطر هو الأنباء الواردة من روسيا، والتي تفيد بأن إعجاب بوتين ببطرس الأكبر بلغ حدَّ الاندفاع في تنفيذ سياساته، وأنَّ المعركة ترمي إلى «استعادة» أملاك الإمبراطورية الروسية. وهذا يعني ببساطة أنَّ الحرب تتجاوز السعي إلى اقتلاع الميول الأطلسية من الروح الأوكرانية الحالية، لتصل إلى حد انتزاع أجزاء من الخريطة الأوكرانية. ويعني أيضاً أنَّ الرئيس فلوديمير زيلينسكي لا يواجه نزاعاً حدودياً أو عملية تأديب من جار قوي، بل إنَّه في مواجهة مع روح الإمبرطورية الروسية وإرث بطرس الأكبر.
في أي نقاش حول الحرب الروسية في أوكرانيا لا يصحُّ تجاهل مسؤولية الغرب. لقد تجاهل الغرب الذي استولى عليه غرور المنتصر، بعد انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي «حقائقَ» روسية لا يصحُّ القفز فوقها. فهذه الدولة التي تعادل مساحة قارة، لا يحكمها إلا رجل قوي يستطيع تطويع الانشقاقات وضبط الحساسيات القومية والإثنية. ثم إنَّها دولة مصابة أصلاً بعُقدة الحصار، وتشعر بأنَّها كانت عبر التاريخ مستهدفة برياح الغزوات. وهي أيضاً تحمل تجاه أوروبا شعوراً يمتزج فيه الإعجاب بالتقدم بالخوف على خصوصية الهوية. وما لا يصحُّ تناسيه أيضاً أنَّ الإرث الإمبراطوري متجذرٌ في روح الشعب الذي يحنّ دائماً إلى روسيا العظيمة.
أساءَ الغرب التصرفَ مع روسيا المثخنة. لم يبلور تصوراً يستدرجها إلى الفضاء الأوروبي. فعل نقيض ذلك. حرك بيادق حلف «الناتو» باتجاه حدودها كأنَّه يدفعها إلى حجم قوة إقليمية وليست وريثة لدور الاتحاد السوفياتي. وارتكب الغرب خطأ آخر؛ توهَّم زعماؤه أن بوتين سيكتفي بترميم الجيش وحماية الاتحاد الروسي من التفكك، وسينصرف لعصرنة الاقتصاد مع التسليم بالقيادة الأميركية للعالم. ولا مبالغة في القول إنَّ الغرب لم يستطع التقاط الإشارات التي أرسلها «الكولونيل السوفياتي» في العقد الثاني من القرن الحالي، وأهمها تأديب جورجيا واستعادة القرم، والتدخل العسكري في سوريا، وإطلاق تدخلات «مجموعة فاغنر» في دول عدة. ولأنَّ الغرب لم يلتقط الإشارات كان من الصعب عليه تصور القوات الروسية تخوض حرب شوارع في مدن أوكرانية، ورؤية ملايين الأوكرانيين يهيمون هرباً من جيش القيصر الجديد.
للمرة الأولى تحدث بوتين كمن يكشف أوراقه بلا وجل. قال: «إنه أمرٌ مدهش، كأنَّ شيئاً لم يتغير. بطرس الأكبر خاض حرب الشمال على مدى 21 عاماً. يسود انطباع أنَّه خلال الحرب مع السويد استولى على شيء ما. هو لم يستولِ على أي شيء بل استعاد». وربما هذا ما كان يقصده سيد الكرملين حين عدّ أوكرانيا مجردَ كيانٍ مصطنَع. كان كلامُه قاطعاً وواضحاً. قال: «عندما أسّس (الإمبراطور) عاصمة جديدة في سانت بطرسبرغ لم يعترف أي من بلدان أوروبا بأنَّ هذه الأراضي تابعة لروسيا. كان العالم بأسره يعدها جزءاً من السويد». واستنتج: «كان بصدد الاستعادة والتدعيم. يبدو أنَّه يتعيَّن علينا حالياً أن نستعيدَ وأن ندعم».
كان الاعتقاد السائد هو أنَّ بوتين جاء لتنفيذ مهمة هندسها مطبخ الجيش والـ«كي جي بي» لاستعادة هيبة روسيا. ما يبدو الآن هو أخطر من ذلك. وصايا بطرس الأكبر أشدُّ هولاً من رغبات المطبخ العسكري والأمني. إنَّها تشدّد على ديمومة التهديد الروسي لفنلندا والسويد، وعلى إخضاع مناطق القوقاز والقرم والبلطيق وأوكرانيا. والسؤال هو: هل يستطيع العالم احتمالَ برنامج بهذا الحجم؟ وهل يستطيع بوتين الانسحاب من أوكرانيا، إذا كانت مجرد محطة في مسيرة أكبر وأخطر؟ وهل يستطيع الاقتصاد العالمي العيش طويلاً على نار المواجهة الروسية - الغربية؟
مسكينة أوكرانيا. لن يرسلَ أحدٌ جيشَه لوقف الجيش الروسي. ولن تستطيعَ الأسلحة الغربية منعَ بوتين من تسجيل انتصارات عسكرية. أوكرانيا ساحة لأوسع انقلاب يشهدُه العالم منذ انهيار جدار برلين. الخوف يتمدّد في العروق الأوروبية، والدول التي كانت مطمئنة تتحسّس ترساناتها وتطالب مصانعها العسكرية بالإنتاج بكامل طاقتها. خرج الكولونيل من عباءة بطرس الأكبر، وتجاهل إعجاب الإمبراطور بالتقدم الأوروبي مكتفياً بحرصه على توسيع الخريطة. خرج من العباءة وأطلق انقلاباً سيثير شهيَّات الدول التي تتبرَّم بخرائطها الحالية. التصريحات الصينية الأخيرة عن تايوان خيرُ دليل. مسكين زيلينسكي أيضاً. كلّفه مواطنوه دوراً مستحيلاً. كلّفوه مصارعة حارس «أملاك» بطرس الأكبر.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حارس «أملاك» بطرس الأكبر حارس «أملاك» بطرس الأكبر



GMT 08:29 2024 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

الإجابة عِلم

GMT 08:25 2024 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

العرق الإخواني دساس!!

GMT 08:16 2024 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

وزراء فى حضرة الشيخ

GMT 08:05 2024 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

نجاة «نمرة 2 يكسب أحيانًا»!!

ياسمين صبري بإطلالات أنيقة كررت فيها لمساتها الجمالية

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 10:15 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

أفكار لتزيين واجهة المنزل المودرن والكلاسيكي
  مصر اليوم - أفكار لتزيين واجهة المنزل المودرن والكلاسيكي

GMT 07:24 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

دراسة توضح علاقة القهوة بأمراض القلب
  مصر اليوم - دراسة توضح علاقة القهوة بأمراض القلب

GMT 11:57 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

تامر حسني يكشف سبب تصميمه على كتابة أغانيه
  مصر اليوم - تامر حسني يكشف سبب تصميمه على كتابة أغانيه

GMT 18:46 2017 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

دار Blancheur تعلن عن عرض مميز لأزياء المحجبات في لندن

GMT 10:03 2020 السبت ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

طريقة عمل الفاصوليا البيضاء

GMT 04:45 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الأمن المصري يكشف حقيقة اختطاف فتاة في منطقة "المعادي"

GMT 10:07 2020 السبت ,10 تشرين الأول / أكتوبر

الصحة: تسجيل 106 إصابات جديدة بـ كورونا و12 وفاة

GMT 11:56 2020 الخميس ,13 آب / أغسطس

7 أشكال غريبة لرفوف الكتب تعرفي عليها

GMT 17:04 2020 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

مستشار الرئاسة التركية ياسين أقطاي يوجه رسالة إلى مصر

GMT 08:00 2019 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سيات أتيكا 2020 في مصر رسميًا

GMT 03:29 2019 الثلاثاء ,25 حزيران / يونيو

داليا مصطفى تتعرَّض لعملية نصب وتُحذِّر الفنانين

GMT 08:30 2019 الأحد ,23 حزيران / يونيو

تصميمات "الفيونكة" تزيّن مجوهرات العروس في 2019

GMT 17:44 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

بلاغ ضد هالة صدقي بسبب فيديو "حثالة المجتمع"
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon