بقلم: مشاري الذايدي
لعله من سوء طالع مسلسل «الملك» الذي أنتجته الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية بمصر، تزامنه مع الحفل المهيب والموكب الفخم، والمسيرة «الملكية» التي نجحت مصر في إبهارنا بها، حين تم نقل مومياوات الملوك والملكات من العصور الفرعونية الزاهية، من متحف التحرير القديم، لمتحف الحضارة المصرية في الفسطاط التاريخية.
الحفل الرائع بكل تفاصيله، سلّط الضوء، ربما، على تاريخ مصر القديم، والمصريات، ليأتي إعلان الفيلم التشويقي «البرومو» في هذا المناخ، وعليه هوجم العمل، فقط بسبب المقارنة بين «حقيقة» الفراعنة، والملك أحمس، في اللون والشكل والأزياء، وما قدّمه هذا المسلسل، أو للدقة، كان «ينوي» تقديمه... والسخرية من ظهور الفرعون أحمس من خلال ممثل أبيض اللون أخضر العينين، وهو الممثل النجم عمرو يوسف. الشركة سارعت للإعلان عن وقف العمل، وعدم إجازته إلا بعد مراجعة «لجنة» تضم متخصصين في التاريخ والآثار وعلوم الاجتماع.
الجدل حول المسلسل، صار هو الخبر، وليس محتواه المقتبس من رواية العالمي، نجيب محفوظ، عن عمل «كفاح طيبة» الذي يروي قصة أحمس في صدّ غزاة الهكسوس عن مصر. الحق أن الدراما اليوم صارت هي الأداة الأساسية في تشكيل وعي ومخاطبة، وإمتاع الجمهور المراد، وترويج الأدبيات المختارة، المضادة للأدبيات المرذولة، أياً كان سبب استرذالها.
الكل يعمل ذلك، وفي مقدمتهم الدراما الغربية، عبر منصاتها الحديثة مثل «نتفليكس» وغيرها، ولا يحق لهم المزايدة والتنظير على دول مثل روسيا والصين والهند بل حتى تركيا وإيران!
يقول البعض: لا يوجد دارما تاريخية مطابقة تماماً لما في المصادر التاريخية، هذا إذا اخترنا أصلاً رواية لحدث أو شخصية تاريخية من بين روايات كثيرة... لذلك فالتاريخ ليس سوى مادة خام، عجينة، يشكلّها السيناريست والمخرج كيفما اقتضت المصلحة، أو «الذوق» السائد حينها... والبعض يرى هذا الكلام استهتاراً وذبحاً للصدق.
التاريخ مصدر أساس للأدب والفنون، فكم مسرحية عملت عن نابليون أو هنري الثامن أو هتلر، وغيرهم، وكم فيلم وكم رواية، واليوم نسأل كم مسلسل على منصات الفرجة الديجتال؟ بدرجات متفاوتة من «الالتزام» بالمرويات.
قلة هي الأعمال الفنية المطابقة لحدّ كبير للموروث، مثل فيلم «آلام المسيح» للمخرج ميل غيبسون، وفيلم «ووترلو» للمخرج الروسي بندارتشوك الذي يكاد يكون تجسيداً لوقائع وحوارات تاريخية ثابتة للمعركة الشهيرة لنابليون، كما هو رأي الكاتب والباحث دكتور محمد عبد الستار البدري في هذه الجريدة.
الجدل لم ينتهِ، ليس من اليوم، حول العلاقة بين التاريخ والدراما، فذهب الأديب والمفكّر الإيطالي (أُمبيرتو إيكو) إلى أن صانع الفيلم لا يعدو كونه مؤرخاً، بل يحتلّ مرتبة أعلى؛ لأنه يخلق التاريخ مرة أخرى.
ورأي آخر. مثلا، رأي الكاتب والناقد السينمائي العراقي فراس الشاروط في المصدر نفسه - مجلة «الفيصل» - بعدما أورد نصّ المفكّر والأديب الإيطالي، قال:«إذا كان صانع الدراما غير مطالب بالخضوع كليّاً لحقائق التاريخ فهو مطالب بعدم مناقضتها أو تجاهلها».
والجدل لن يتلاشى، لكن يهمنا في حالتنا - ونحن في بداية المشوار - تلافي أخطاء من سبقنا، والوفاء لقيمتي: الدقّة والمصداقية، والإبداع والانطلاق... معادلة صعبة لكنها ليست مستحيلة.