بقلم: مشاري الذايدي
من العبارات الشائعة من قبل، وشائعة أكثر اليوم، إذا قال شخص لشخص ما: لا تتفلسف علينا! أو «بطّل» تنظير علينا. طبعاً تأتي هذه العبارات في سياق السخرية والسأم من الكلام غير المفهوم بالنسبة لهذا الساخر. مع أنَّ بعض هذه السخريات في محلّها، ويستحق «مدّعي» التفلسف والتنظير سهامه منها، غير إنه، ويا للعحب، نعاني في عالمنا العربي من قلّة التنظير، لا من كثرته... هل تصدّق؟!
اليوم راقب بلطجة النظام الإيراني في ديار العرب، وآخر ذلك هجماته الصاروخية على المدن السعودية، ومجازره الحربية والسياسية والاقتصادية في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغيرها.
راقب غزوات الغازي العثمانلي الجديد الخاقان الأكبر إردوغان، في سوريا والعراق وليبيا والصومال، نعم الصومال، وغيرها.
راقب مؤامرات اللوبيات الإخوانية «الخواجاتية» على مصر والسعودية والإمارات وبقية الدول العربية. راقب الصراع الأكبر اليوم في القرن الأفريقي بين السودان ومصر من طرف وإثيوبيا من طرف ثانٍ. راقب الحال في اليمن، بين حوثي وإخواني وجنوبي وشمالي وقاعدي وداعشي، إلخ... كل هذا، وغيره، هو نتاج صراع بين أفكار ومصالح، على خلاف قديم أيهما أنتج الآخر، هل المصالح أنتجت لحافها الفكري، أم الفكر استجلب مصالحه المادية؟ لكن لا شأن لنا بهذا الجدل القديم. شأننا في توفير القدرة على الفهم، فهم العالم من حولنا، مَن يحارب مَن؟ ولماذا؟ وبأي وسيلة؟ مَن يحالف مَن؟ ولماذا؟ وبأي وسيلة؟ أسئلة، بالضرورة تحتاج إلى تعميق «النظر والتنظير» من أجل توفير الفهم، وهذا عمل لا يأتي بتغريدة على «تويتر» أو مقطع على «سناب شات» أو ثرثرة على «هاوس كلوب» أو منشور على «فيسبوك»....
لا، هذه «صناعة» كبرى، وعمل شاق، لكن خلاصته مفيدة... لا بل ضرورة حياة وبقاء ومستقبل.
د. عبد المنعم سعيد، الكاتب بهذه الصحيفة، ورئيس مركز الأهرام للدراسات الأسبق، تحدّث في صحيفة «اليوم السابع» المصرية، وهو الرجل العربي الخبير بهذه الصناعة، عن مسألة مهمة لتقوية هذه الصناعة عربياً، هي «الاستثمار في الباحث»، للخروج بباحثين متخصصين في مجالات ودول محدّدة، ودعم هؤلاء الباحثين حتى لا تكون هناك بيئة طاردة لهم. لنلقِ نظرة عجلى على هذه الصناعة في العالم، حتى نعرف واقعنا العربي المحزن:
تصدر جامعة بنسلفانيا الأميركية تقريراً سنوياً عن مراكز الأبحاث حول العالم، يعدّ، حسب بعض الباحثين، المرجع الدولي الأهم. وفقاً لتقريرها عن عام 2018، هناك قرابة 8160 مركز أبحاث في العالم، تستحوذ أوروبا على الجزء الأكبر منها، بواقع 2219، في حين يوجد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 507 مراكز فقط! وفي العالم العربي نسبة الإنفاق الحكومي على مراكز البحث بلغت 90.8%، فيما بلغت نسبة تمويل القطاع الخاص لتلك المراكز نحو 9.2%، في حين أنَّ نسبة القطاع الخاص في اليابان، مثلاً، تبلغ 70%. لنقترب أكثر من جيران العرب المزعجين، ولن أتحدث عن المثال الإسرائيلي، فهو معلوم:
وفقاً لتقرير بنسلفانيا، بلغ عدد المراكز البحثية التركية 48 مركزاً. على أنَّ عدد المراكز في تركيا زاد بشكل كبير، مقارنةً مثلاً بعام 2013 يتقدّمها مركز «إدام» في المرتبة 20 بعد أن كان يحتل المرتبة 16 قبل سنوات قليلة. ومركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية (أورسام) الذي تأسس بتاريخ 1 يناير (كانون الثاني) 2009 لخدمة القرار التركي الخاص بمنطقة الشرق الأوسط، يعني ديارنا حفظك الله! لدينا في إيران، صناعة مراكز أبحاث حقيقية، صعب التفصيل فيها، لضيق المساحة، لكن خُذْ منها:
مركز دراسات رئاسة الجمهورية - معهد دراسات وزارة الخارجية - مركز دراسات مجمع مصلحة تشخيص النظام... إلخ.
نحتاج إذن إلى «التنظير» الحقيقي لخدمة الرؤية العربية السياسية والحضارية، خصوصاً الرؤية السعودية، لخلق «نظرية» حولها، تحميها من الاستهداف الخارجي والتسطيح الداخلي.
الفكرة أولاً... ثم تأتي بقية الأشياء.