بقلم - هدى رءوف
تلقى الاحتجاجات، التى تشهدها مدينة البصرة حالياً، بدلالاتها المرتبطة بالدور الإيرانى فى العراق منذ 2003 حتى الآن، والتى يمكن إيجازها فى دلالتين، ترتبط الأولى بمدى حقيقة النفوذ الإيرانى فى العراق، والأخرى ترتبط بنتائج السياسات الإيرانية المتبعة فى العراق. كما أنها فى التحليل الأخير ستعمق لدى إيران مخاوفها القديمة تجاه دولة العراق، على نحو ما سنوضحه بالمقال.
فتشهد مدينة البصرة ذات الغالبية الشيعية، التى تمتلك معظم النفط العراقى وتصدره للخارج، احتجاجات دامية على إثر نقص الكهرباء، والمياه الصالحة للشرب والفساد الحكومى، وفى خضم المظاهرات اقتحم المتظاهرون القنصلية الإيرانية بالبصرة وردد المحتجون شعارات مناهضة لإيران خارج القنصلية الإيرانية، كما أضرموا النار فى مكاتب للميليشيات الشيعية مثل لواء بدر وعصائب أهل الحق وحزب الدعوة، وكلها جماعات شيعية ذات ارتباطات بإيران منذ اتخذوا منها منفى بالثمانينيات، حتى إن البعض منهم حارب مع إيران فى الحرب العراقية الإيرانية.
كما تأتى الاحتجاجات وسط خلافات سياسية، وتنافس كتلتين على الاحتفاظ بأكبر عدد من مقاعد البرلمان لتشكيل الحكومة الجديدة بعد الانتخابات التى تمت فى مايو الماضى. إحدى الكتلتين تتكون من الميليشيات ذات الارتباط بإيران مع ائتلاف القانون لرئيس وزراء العراق السابق نورى المالكى، وهى ذاتها مكاتب الميليشيات الشيعية التى تم حرقها أثناء المظاهرات، فهذا التكتل يمثل النخبة العراقية الشيعية الرسمية وشبه العسكرية التى خلقتها إيران فى عراق ما بعد صدام حسين. أما الكتلة الأخرى فتضم تحالف مقتدى الصدر ورئيس الوزراء حيدر العبادى، وهما لهما علاقات تتسم بالتردد تجاه إيران، ودائما ما وُصفت علاقة إيران بالصدر بأنها تكتيكية، تخدم أغراضا محددة، لكنهما إجمالاً يرفضان النفوذ الإيرانى بالعراق ولهما مرجعية قومية عربية. لذا فى حال تمكن الائتلاف الذى يتزعمه مقتدى الصدر من تشكيل الحكومة قد تتغير سياسات العراق نوعا ما تجاه تخفيف تأثير الولايات المتحدة وكذلك إيران. لذا فحرق مكاتب الميليشيات ذات الصلة الوثيقة بإيران، فضلا عن القنصلية الإيرانية، هو رسالة واضحة تؤكد استياء العراقيين من سياسات إيران تجاه العراق، بمن فيهم المكون الشيعى الذى اعتمدت إيران عليه لتعزيز فرص تأثيرها بالعراق منذ 2003، فضلاً عن الاستياء من الساسة العراقيين المرتبطين بها. الجدير بالذكر أن الرأى العام العراقى تجاه إيران ليس جديداً، بل منذ الاحتلال الأمريكى للعراق الذى خلق فراغ قوة عملت إيران على ملئه والعمل على تشكيل حكومة عراقية حليفة لإيران ومصالحها اعتماداً على المكون الطائفى وتقديم ذاتها باعتبارها حافظ الأمن والاستقرار وداعم الشيعة بالمنطقة. فقد قام المجلس الأعلى الإسلامى بحذف الثورة الإسلامية من اسمه بعد انتقاد العراقيين صلته بإيران، كما أنه فى أحد الاستطلاعات اعتبر العراقيون أن إيران تشجع على العنف المذهبى. فضلاً عن أن الحوزات الدينية فى النجف لا تؤمن بولاية الفقيه، لذا تحاول إيران أن تعد إحدى الشخصيات المرتبطة بها لتحل محل المرجع الدينى الكبير آية الله السيستانى بعد خلو مكانه. كل هذا يوضح أنه لا يمكن الزعم بأن العراق يقع تحت الهيمنة الإيرانية الكاملة، قد يكون هناك بعض التأثير من قبل الفواعل والشخصيات الرئيسية فى العملية السياسية العراقية على ارتباط إيران والتحرك فى إطار خدمة مصالحها، لكن هذا لا ينفى عدم وجود قبول عراقى للتأثير الإيرانى، وهو ما يستوجب أن تقوم الدول العربية الخليجية بالعمل على الاستثمار والبناء عليه.
من جهة أخرى، تُلقى الاحتجاجات الضوء على جدوى السياسة الإيرانية فى العراق، وهل ساهمت فى حفظ استقرار العراق وأمنه ورفاهيته كما تروج إيران. فقد حرصت منذ سقوط العراق على ربط الاقتصاد العراقى بالاقتصاد الإيرانى وتبعيته له، فقد قدمت قروضا للصادرات الإيرانية إلى العراق، كما وقعت اتفاقات للتعاون فى الأمن والجمارك، والصناعة، والتعليم، والبيئة، والنقل، هذا غير تطوير منطقة تجارة حرة بالقرب من الحدود المشتركة فى منطقة البصرة. ومع ذلك فأهم المدن الشيعية، وهى البصرة، تنتفض لتردى الأوضاع. وفى ذات الوقت اتبعت إيران سياسات بناء السدود وتحويل المياه على نهر قارون التى خفضت من تدفق المياه تجاه مدينة البصرة، مما حدا بالحكومة العراقية سابقا لاتهام إيران باستخدام المياه للضغط على الحكومة العراقية.
إن الاحتجاجات الحالية تعمق لدى إيران قلقها بشأن العراق وسياستها التى انطلقت من العلاقة التاريخية بالعراق وكونها خصمها الإقليمى المنافس، فعملت على تأسيس حكومة شيعية حليفة لكن ليست قوية بما يجعلها ندا لها فى المنطقة. فإيران تدرك أن العراق دولة عريقة النشأة، ولديها موارد ضخمة ونفوذ ودور إقليمى مارسته طويلاً، وقد يحاول العراق بعد استقرار أوضاعه أن يمارس دوراً نشطاً وينافس الدور الإقليمى الإيرانى.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع