بقلم:عاطف بشاى
هو درة غالية من درر الإبداع التمثيلى، وواحد من ألمع نجوم السينما العظام على مدار تاريخها منذ الأربعينيات من القرن الماضى.. فقد برز بطَلّته الجذابة وحضوره الطاغى وتميز بأناقته الدائمة ووسامته البادية وقدرته الفائقة على التعبير الأخاذ والانفعال البراق، الذى يَشِى بموهبته الكبيرة فى أداء مختلف الشخصيات التراجيدية والكوميدية المتنوعة، وحصاده فى رحلته الفنية الخصبة يتجاوز (270) فيلمًا و(20) مسلسلًا.. ومَن ينسى أدواره البارزة فى (المذنبون- المرأة المجهولة- الرجل الذى فقد ظله- الكرنك- المستحيل- اللص والكلاب- الإرهاب والكباب) ومسلسلات (زينب والعرش- هند والدكتور نعمان).سعدت أن يجسد لى «كمال الشناوى» دور البطولة فى مسلسل (الأب)، الذى كتبت له القصة والسيناريو والحوار مع (دلال عبدالعزيز- وأحمد عبدالعزيز- ومحمود قابيل) وأخرجه «حسن بشير».
فبعد انتهائى من كتابة حلقات المسلسل، شرعت أنا والمخرج فى اختيار الممثلين الملائمين لأدوار المسلسل (كنا فى ذلك الزمن الجميل- قبل أن ينقلب الهرم- يقوم المؤلف ومعه المخرج باختيار الممثلين بعد الانتهاء من كتابة النص.. بينما الآن فإن البطل المرشح للعمل من المنتج هو الذى يختار المؤلف والمخرج والممثلين ابتداء من الأدوار الرئيسية والثانوية حتى الكومبارس وكذلك مدير التصوير والمونتير ومؤلف الموسيقى التصويرية والماكيير والعمال..). اقترح المخرج عدة أسماء كبيرة تلائم من وجهة نظره شخصية البطل.. ولكنه فوجئ بى أرشح الفنان الكبير «كمال الشناوى».. وعبر عن دهشته متصورًا أن هذه النوعية من الأدوار لا تناسبه، فملامح الطيبة والود والعطف الأبوى وتعبيرات الصدمة والانكسار وتأثير محنة ما يلاقيه من أحداث قاسية لا تَشِى بها ملامحه، التى تعودت على نوعية أخرى تمامًا من الأدوار، (يقصد أدوار الشر بتنويعاته المختلفة التى برع فى أدائها «كمال الشناوى»).. ولكننى كنت أرغب فى البُعد تمامًا عن النمطية فى اختيار الشخصيات. وقلت له إن ممثلًا عظيم الشأن مثل كمال الشناوى لا يمثل فقط أدوارًا اعتادها، بل هو قادر على التنوع والابتكار والتقمص وشحذ إرادته وتحدى موهبته أن تبرز وتزدهر وتتألق فى شخصيات متنوعة أسوة بفنانين عالميين فعلوا ذلك.. قرأ «كمال الشناوى» الحلقات، ووافق بترحاب على تجسيد الشخصية.. لكنه اشترط أن يقرأ معى كل الحلقات قبل التصوير، فحددنا مواعيد ثابتة استغرقت أيامًا طويلة ناقشنى فيها فى كل التفاصيل بدقة بالغة، بالإضافة إلى أنى اعتدت منه أن يُهاتفنى يوميًّا فى تمام الساعة السابعة صباحًا.. يُحدثنى فى كل الأمور السياسية والاجتماعية والثقافية والفنية وأحوال الدنيا وذكرياته الجميلة فى رحلته الفنية وما يَعِنّ له من ملاحظات خاصة بالحلقات سواء فيما يتصل بدوره أو بأدوار الآخرين.
قبل تصوير مشهد يسمى بلغة السينما «ماستر سين»، أى مشهد إجبارى لا يمكن الاستغناء عنه لأهميته فى تطوير الأحداث أو إنشاء الصراع.. أو فى تحديد مصير إحدى الشخصيات.. جلست بالقرب منه فى الاستوديو أرمقه وهو يقرأ المشهد باهتمام.. ثم ما لبث أن رفع عينيه عن الأوراق، ومال علىَّ مُردِّدًا بصوت خفيض مُقرِّرًا أنه لن يؤدى ذلك المشهد بحواره الطويل هذا الذى احتل مساحة لا تقل عن صفحتين.. فزعت وانفعلت وقلت له باستنكار: كيف وهو مشهد أساسى بينك وبين ابنك.. تواجهه بخيبة أملك فيه وفى زواجه بمريضة بمرض نفسى وفشله فى علاجها وعدم اكتشافه ذلك رغم أنه طبيب نفسى.. فتزوجها باعتبار أنها أصبحت إنسانة سوِيّة.. وذلك فى حد ذاته مفارقة تعسة.. ومدى انعكاس مرضها النفسى بالسلب فى طريقة تعاملها مع طفلها الصغير.. وأن عليه أن يتخذ موقفًا من كل ذلك؟!.. قال لى: سوف أعبر عن كل ذلك بنظرة طويلة لابنى فى لقطة قريبة لوجهى.
قلت له فى ضيق: لا أعتقد أن هذا كافٍ.. وسألته مُتشكِّكًا: هل تجد صعوبة فى حفظ الحوار؟!.. نظر لى فى عتاب وأكد: إطلاقًا، لكنى أرى أن التعبير الصامت هذا أقوى تأثيرًا وأعمق فى قيمته وفحواه.. ثم أكد لى بتواضع جم أنه على استعداد أن يصور المشهد مرة أخرى كما كتبته دون أن يحذف منه كلمة واحدة إذا لم يَرُقْ لى ولم أقتنع بطريقة أدائه التى اقترحها.. وافقت على مضض.. ودارت الكاميرا.. وبدأ المشهد ببضع كلمات لابنه، الذى يمثل دوره الفنان «أحمد عبدالعزيز» يشرح فيها ظروف ملابسات زواجه من «دلال
عبدالعزيز».. و«كمال الشناوى» مطرق حزين، تقترب منه الكاميرا فى حركة (زووم إن) بطيئة حتى لقطة لوجهه، فيرفع رأسه إلى ابنه بمزيج مدهش من تعبيرات مختلفة من الأسى والأسف والحنو والشفقة والإحساس بخيبة الأمل واليأس والخوف والقلق والتوجس من مستقبل علاقته بتلك الزوجة.. وما إن انتهى تصوير المشهد حتى صفقت له بحرارة.. وصفق كل الموجودين بالاستوديو.. وصِحْت بانبهار: كم أنت ممثل فذ.. لقد قلتَ بنظرة عينيك الصامتة ببلاغة واقتدار كل المعانى التى أوردتها فى الحوار وأيضًا التى لم أُورِدْها.