بقلم - محمد شومان
تحت رعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي، ينطلق بعد أيام في مدينة شرم الشيخ (جنوب سيناء) منتدى شباب العالم في نسخته الثانية، ويشارك فيه أكثر من خمسة آلاف شاب من مختلف الدول والثقافات بهدف التحاور حول أهم القضايا والمشكلات التي تهم شباب العالم، والتوصل إلى مجموعة من التوصيات والمبادرات في حضور نخبة من الزعماء والقادة والشخصيات المؤثرة.
وتغطي أعمال المؤتمر ثلاثة محاور هي السلام والإبداع والتنمية، ويتبنى المنتدى رؤية مستوحاة من كتاب الأعمدة السبعة للشخصية المصرية للدكتور ميلاد حنا (1924- 2012) الذي يعالج فيه من منظور ثقافي واسع مكونات الشخصية المصرية وتطورها عبر التاريخ، والتحولات التي مرت بها وأدت إلى تغيير المصريين لغتهم ودينهم مرات عدة عبر عصور مختلفة، إلا أن الشخصية المصرية صهرتها في بوتقة من التسامح والتكامل وأحياناً الصراع الذي لم يقوض أركان مصر كوطن واحد ودولة واحدة متماسكة عبر العصور. شخصية مصر بهذا المعنى تقدم تجربة فريدة في التسامح والعيش المشترك والتفاعل الحضاري المتواصل، وهو ما يحتاج إليه العالم في هذه المرحلة التي تصطدم فيها العولمة مع الهويات الوطنية ويتصارع فيه أيضاً ممثلو بعض السلفيات من أصحاب التفسيرات المتشددة للأديان السماوية والفلسفات غير السماوية.
في هذا السياق، فإن اختيار كتاب ميلاد حنا رسالة ذكية ومؤثرة، ومناسبة تماماً لأهداف المؤتمر، فالكتاب يثبت في هدوء وعقلانية ضرورة التعايش المشترك وتأكيد الوحدة الوطنية، وقبل أن أتطرق إلى موضوعات الكتاب لا بد من التوقف قليلاً عند شخصية ميلاد حنا، أستاذ الهندسة الإنشائية والمفكر المصري المسيحي، الذي انتمى لسنوات طويلة إلى اليسار، وكان من أبرز قيادات حزب التجمع، كما كان من ضمن الشخصيات المعروفة التي شملتهم اعتقالات الرئيس أنور السادات في أيلول (سبتمبر) 1980، وفي نهاية الثمانينات تقريباً ابتعد الرجل عن العمل السياسي المباشر وتفرغ تقريباً للكتابة في الصحف، وأصدر ثلاثة كتب الأول بعنوان «ذكريات سبتمبرية» عن تجربة اعتقاله، والثاني «قبول الآخر» عام 1998. والثالث والأكثر شهرة «الأعمدة السبعة للشخصية المصرية» عام 1990، والذي صدر في عدة طبعات. ويقول عنه ميلاد حنا أنه كتاب موجه للعقل والوجدان لأن موضوعه هو حب الوطن ويضيف أنه ليس كتاباً في السياسة أو التاريخ أو الاجتماع أو الفلسفة أو علم النفس كما أنه ليس كتاباً عن الديموقراطية أو حقوق الإنسان وإنما هو كتاب يهدف إلى الوحدة الوطنية وهي القضية التي كرس لها ميلاد حنا حياته.
في ضوء هذه المحددات، الكتاب ليس بحثاً علمياً أو مؤلفاً متخصصاً وإنما هو رسالة بسيطة، وعميقة، كتبت في لغة عاطفية شيقة اعتمد فيها ميلاد حنا على نتائج كثير من الدراسات التاريخية والدينية والاجتماعية والنفسية عن مصر والمصريين، من هنا فإن كثيراً من أطروحات وأفكار الكتاب تبدو معروفة ومتداولة في أعمال هيرودوت والمؤرخين المسيحيين والمسلمين علاوة على الباحثين الجدد ممن تناولوا شخصية مصر. استند ميلاد حنا في صياغة رسالته المؤثرة إلى كل هؤلاء من دون إن يشير إلى المصادر أو المراجع التي اعتمد عليها، لكن الرجل اجتهد واستخدم منهجاً توفيقياً جديداً تأثر فيه إلى حد كبير بمهنته الأصلية كمهندس إنشائي، وانطلق من فرضية إن للشخصية المصرية سبعة أعمدة، وأضاف أنه ربما اختار الرقم سبعة لأنه مقدس لدى الفراعنة وبالذات الأقباط، ويرى ميلاد حنا إن شخصية مصر تتكون من أربعة رقائق أو أعمدة حضارية وثلاثة رقائق جغرافية. يعد الانتماء الفرعوني أول الأعمدة التي تقوم عليها الشخصية المصرية، حيث يعتز بها المصريون لما تمثله من حضارة ضاربة في القدم، وأول حضارة مكتوبة عرفها التاريخ، أسست أول دولة وتوصلت إلى فكرة التوحيد ووجود حياة أخرى بعد الموت والبعث من جديد والحساب. ويتمثل العمود الثاني للشخصية المصرية في الانتماء للعصر اليوناني والروماني، فقد أثرت حضارة اليونان في مصر ونقل اليونانيون الكثير عن الحضارة الفرعونية، واستفادت مصر من الأبجدية الإغريقية واندمجت مع اللغة المصرية القديمة لتظهر بعد ذلك اللغة القبطية والتي تكونت تدريجياً قبل ظهور المسيحية بعشرات السنين، وأصبحت مصر ولاية رومانية ودخلت المسيحية، ومن ثم فإن مصر غيرت ديانتها من الفرعونية القديمة إلى المسيحية وبذلك غيرت مصر ديانتها ولغتها في وقت متقارب. ويمكن القول إن فكرة الدمج بين العصرين اليوناني– البطلمي والروماني وتصويرهما كعمود واحد من أعمدة الشخصية المصرية قد لا تروق لمؤرخي العصرين الروماني والبطلمي لأن لكل منهما سماته الخاصة والمتميزة ولا يجوز الجمع بينهما.
يأتي بعد ذلك العمود الثالث للشخصية المصرية وهو الانتماء القبطي، والذي تميز بوجود المدرسة اللاهوتية العريقة بالإسكندرية، حيث ابتكرت مصر فكرة الرهبنة، ولعبت الكنيسة المصرية أدواراً بالغة الأهمية في نشر المسيحية وصياغة الفكر المسيحي وتأكيد استقلال الكنيسة وابتعادها عن السياسة فهي كما يقول كنيسة مناضلة لا تبغي السلطة. ويقوم العمود الرابع للشخصية المصرية على الانتماء للإسلام كدين وثقافة وقد حدث مزج وتداخل بين المسيحيين والمسلمين يمثل ركيزة للرقيقة الحضارية المهمة والأخيرة من رقائق الحضارات الأربعة التي صاغت شخصية مصر، حيث كان دخول الإسلام لمصر مختلفاً عن دخوله كثير من البلاد الأخرى إذ لم يكن غزواً أو فتحاً بحد السيف، ومع ذلك حدثت توترات... وصدامات سرعان ما اختفت واستمر العيش المشترك، وظهرت علاقة قوية بين تحول المصريين من المسيحية إلى الإسلام وبين استخدام اللغة العربية بدلاً من القبطية.
وينتقل ميلاد حنا إلى الأعمدة أو الرقائق الجغرافية فيبدأ بالعمود الخامس وهو انتماء مصر العربي، حيث كان سكان شبه الجزيرة على اتصال بشعب مصر منذ زمن يسبق عصر قيام الأسر الفرعونية، ومع ذلك يؤكد المؤلف أن الحديث عن النقاء العرقي أمر مرفوض، ثم يشير إلى الهجرات العربية بعد الفتح الإسلامي لمصر وأثرها في تعريب مصر، من جانب آخر تقبل الأقباط اللغة العربية وبرعوا فيها كما قررت الكنيسة في القرن الثاني عشر استخدام اللغة العربية في الصلاة إلى جانب اللغة القبطية وهو تقليد لا يزال يمارس حتى الآن في مصر مع تقهقر واضح لاستخدام اللغة القبطية. أما العمود السادس للشخصية المصرية فهو بعد جغرافي يرتبط بانتماء مصر الأصيل للبحر المتوسط فأغلب الحضارات التي مرت على مصر جاءت عبر المتوسط، وهي علاقة جدلية اتخذت أبعاداً جديدة في العصور الحديثة بعد الحملة الفرنسية على مصر عام 1798. ويتمثل العمود السابع في انتماء مصر جغرافياً وحضارياً لأفريقيا عبر نهر النيل وتيارات الهجرة الوافدة على مصر عبر التاريخ. وكان للكنيسة المصرية حضور وتأثير كبيران في أفريقيا كما لعبت مصر عبدالناصر أدواراً مهمة في دعم حركات التحرر الوطني، ويخلص ميلاد حنا إلى أن أفريقيا هي مستقبل مصر، تماماً كما أن انتماء مصر العربي ضرورة ثقافية وسياسية واقتصادية لكل العرب وليس لمصر فقط، ولا سبيل أمام الدول العربية إلا بالوحدة المتكاملة لكنها طريق طويل وشاق يبدأ بالتعاون الاقتصادي وبالتحول الديموقراطي.
باختصار هذه هي رقائق أو أعمدة الشخصية المصرية السبعة لميلاد حنا، والتي تبدو كطبقات مندمجة ومتفاعلة عبر التاريخ والجغرافيا والانتماءات الثقافية أو الهويات المختلفة والمتكاملة لكن يمكن إعادة تقسيمها أو إضافة طبقات أخرى من وجهة نظري، فتاريخ الأسر المصرية ممتد لقرابة ثلاثة آلاف سنة، ومن الصعب اعتباره مجرد طبقة أو رقيقة واحدة، خصوصاً أن مصر توسعت خارجياً في بعض العصور الفرعونية، كما تعرضت لاحتلال أراضيها، فضلاً عن عديد من الغزوات، كما عرفت مصر الفرعونية لغتين على الأقل والعديد من الأديان لذلك يمكن القول بوجود رؤية تبسيطية في النظر لتاريخ الأسر الفرعونية. من زاوية أخرى لا أرى مبرراً للحديث عن انتماء مصر للإسلام (الركيزة الرابعة) ثم الحديث عن انتماء مصر العربي كركيزة خامسة لأنه من غير الممكن الفصل بين العروبة والإسلام منذ اللحظة الأولى لدخول الإسلام إلى مصر. علي أي حال فإن المنهج التوفيقي الذي اعتمده ميلاد حنا يتضمن عدداً من المبالغات ومن السهل انتقاده، لكن من الصعب إنكار أهميته في تأكيد الوحدة الوطنية وضرورة العيش المشترك بين الشعوب والثقافات، حيث يؤكد ميلاد حنا أن الأعمدة السبعة حاضرة في عقل ووجدان المصريين ومن الطبيعي أن يفضل بعضنا الانتماء الفرعوني، بينما البعض الآخر يراه انتماءً لعصور وثنية قد ولت وانتهت إلى غير رجعة، وأن البدائل المقبولة هي الانتماء إلى العروبة والإسلام. واستكمالاً لمنهجه التوفيقي المراوغ يقول ميلاد حنا إن الانتماءات أو الأعمدة ليست متساوية في الطول والمتانة، وإن اهتمام وتقدير كل شخص لهذه الأعمدة داخل نفسه أو في وجدان الشعب المصري كله يختلف من إنسان لآخر وفق التركيبة والذاتية، بل لعلها تختلف للفرد والإنسان الواحد مع الزمن، ومن حقبة لأخرى... ما يعني أن المؤلف خلص إلى نسبية موضوع الهوية واعتبارها موضوعاً شخصياً يتعلق بإدراك ووعي كل فرد في المجتمع، وهو ما قد ينسف فكرة الهوية ذاتها كرابطة جماعية.
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع