بقلم - محمد شومان
هناك اجتهادات مدهشة وغريبة تطفو في الفضاء العربي العام من فترة إلى أخرى، غالبيتها للأسف تؤجر بأجر واحد!! لأنها لا تستند إلى منطق وتخاصم حقائق العلم والأدبيات المتفق عليها بين العلماء في العالم، سواء في العلوم الطبيعية والطب أو العلوم الاجتماعية. ولعل أحدث تلك الاجتهادات الخاطئة الكلام ومحاولة التنظير عما يسمى الأمن الإعلامي!! وربطه بالأمن القومي من جهة، وبالثقافة العربية ومنظومتها القيمية من جهة ثانية، ومقاومة نظرية المؤامرة التي تستهدف العروبة والإسلام من جهة ثالثة.
ولا شك في وجود علاقة بين الإعلام (التقليدي والجديد) والثقافة والقيم والهوية الوطنية والحكم الرشيد والديموقراطية والتنشئة الاجتماعية والتنمية وغيرها من قضايا المجتمع، لكن اختزال كل هذه الجوانب في علاقة الإعلام والأمن، ومنح الأمن الأولوية، يثيران إشكاليات عديدة تحتاج إلى مراجعة ونقاش جاد وصريح:
- الإشكالية الأولى خاصة بضعف وهشاشة المحاولات العربية لتعريف مفهوم الأمن الإعلامي، فهي لا تزيد عن عبارات عامة وكلام إنشائي لم يصدر عن باحثين جادين في الدراسات الإعلامية، كما لا يستند إلى الأدبيات العالمية في مجال بحوث الإعلام، لذلك فهو مجرد محاولات للتقرب إلى بعض الأجهزة الأمنية من خلال الترويج لمفهوم يبدو جديداً، لكنه غير واقعي ويدور حول أهداف وعمليات لا يمكن تحقيقها في ظل عالم الإنترنت والسماوات المفتوحة مثل الحديث عن السيادة الإعلامية ومنع الإعلام الخارجي المعادي أو التصدي له، والكلام المرسل عن توعية المواطنين وتحصينهم من أخطار الإعلام الخارجي والإشاعات وسموم السوشال ميديا!! والثابت أن بحوث الإعلام المعاصر لم تحدد أو تناقش مفهوم السيادة الإعلامية أو تحصين المواطنين ضد إعلام الأعداء، ربما باستثناء ما رشح عن التجارب الفاشية والشمولية والتي صارت من الماضي الذي لا يمكن استعادته بسبب تقدم تكنولوجيا الاتصال والإعلام. من جانب آخر، فإن عمليات تحصين أو توعية المواطنين بالأخطار الخارجية تتطلب في القرن الواحد والعشرين إعلاماً حراً، يلتزم في شكل طوعي بالمصلحة الوطنية، فضلاً عن تربية إعلامية للمواطنين تقوم على التفكير النقدي وحرية التعرض لوسائل الإعلام المختلفة. والمفارقة، أن بعض دعاة ما يسمى الإعلام الأمني يلخصون وظيفته في توفير المعلومات الدقيقة والآمنة للمواطنين ضد الأخطار التي تواجه الوطن، وهذه الوظيفة هي من صلب وظائف الإعلام كما تحدده أدبيات الإعلام ونظرياته!!
-الإشكالية الثانية أن هناك مناخاً اجتماعياً وثقافياً سمح بظهور الحديث غير العقلاني عن الأمن الإعلامي يرتبط بوجود مناخ عام من القلق والخوف لدى قطاع واسع من الجماهير العربية، وكان ذلك نتاجاً طبيعياً لتعثر ما عرف بثورات الربيع العربي وانهيار عدد من الدول العربية، ثم الترويج لفكرة المؤامرة ضد العرب والدور التخريبي للإعلام والسوشال ميديا. في هذا السياق، يمكن فهم وتفسير زيادة الطلب المشروع للجماهير العربية على الأمن على حساب الديموقراطية، لكن أعتقد أن هذا الطلب لا يتضمن مطالبة أو رغبة الجماهير في تكميم الأفواه أو محاربة التنوع والتعدد في الإعلام، بدليل أن هناك طلباً جماهيرياً متنامياً على متابعة وإنتاج الخطابات النقدية في الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي. ويمكن الإشارة هنا إلى أهمية وظائف الإعلام في المراقبة وكشف الفساد (WatchDog) والنقد الموضوعي وتوفير ساحة عامة للنقاش وتبادل الآراء، وهي وظائف تدعم في شكل مباشر أمن المجتمع واستقراره، وتجنبه أخطار الانتفاضات والانقلابات السياسية.
- الإشكالية الثالثة: لم يظهر مفهوم الأمن الإعلامي عند مراجعة الأدبيات العالمية المتخصصة في دراسات وبحوث الإعلام، كما لم يظهر مفهوم الإعلام الأمني على الرغم من محاولات بعض الكتاب العرب التنظير لهما، وإنما ظهر بإلحاح مفهوم جديد يتعلق بأمن المعلومات أو الأمن الإعلامي Information Security والمقصود به عمليات حماية وتأمين شبكات الاتصال والمعلومات والمواقع الإلكترونية في الدولة، إضافة إلى قواعد مراقبة أو منع المواقع المرتبطة بالتنظيمات الإرهابية وما تبثه من أفكار متطرفة وأخبار كاذبة، وهي أمور وعمليات لا خلاف عليها ويمكن الاتفاق عليها، لأنها لا تتدخل في أداء الإعلام وما يبثه من مضامين أو تحاول فرض رقابة أمنية من أي نوع، وإنما يقتصر دور أمن المعلومات على حماية شبكات المعلومات ومواقع الإنترنت، أي حماية الإعلام نفسه. وقد عبر عن هذا المفهوم في شكل متشدد وأقرب إلى الروح السلطوية الرئيس فلاديمير بوتين، الذي أعلن عما يسمى «عقيدة الأمن الإعلامي»، كسلاح جديد لمراقبة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وحماية وتأمين شبكات الاتصالات وتكنولوجيا الإعلام ذات الصلة بصياغة ومعالجة المعلومات التي يرتبط تطويرها واستخدامها بحماية الأمن القومي، لكن عقيدة الأمن الإعلامي الروسي أكدت في المقابل تأمين الحقوق والحريات الدستورية للمواطن في المجالات المتعلقة بالحصول على المعلومات، واستخدامها وحرمة الحياة الشخصية لدى استخدام تكنولوجيا الإعلام، وتأمين العلاقة مع المؤسسات الديموقراطية وآليات التنسيق مع أجهزة الدولة والمجتمع المدني.
- الإشكالية الرابعة تتعلق بالعلاقة المركبة والمعقدة بين الإعلام والأمن، لا سيما بعد ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وتنامي دور المواطن الصحافي، وبالتالي فمن الخطأ اختزال علاقة الأمن بالإعلام في متغير وحيد، أو حتى متغيرات عدة، بينها علاقة تأثير مباشر بين متغير مستقل ومتغير تابع، لأن هناك متغيرات مجتمعية وثقافية كثيرة تدخل في تحديد هذه العلاقة المعقدة والمتغيرة . القصد أنه من المستحيل إخضاع الإعلام للأمن، لأن أي علاقة تبعية بينهما تقود إلى تشويه طبيعة الإعلام وإفشال دوره ووظائفه في المجتمع، والمستقرة والمتعارف عليها في كل دول العالم، فالإعلام عندما يخضع لحسابات الأمن وأولوياته سيخسر طبيعته كإعلام يهدف إلى نقل الحقائق والمعلومات في شكل مهني يسمح بالتعدد والتنوع، وسيتحول إلى مجرد آلية ضخمة للدعاية تروج لوجهة نظر واحدة، وتستهدف التأثير في الجمهور في شكل محدد ومن وجهة نظر أمنية. لكن المضامين الدعائية قد لا تحقق أهدافها، حيث قد تشعر قطاعات واسعة من الجمهور بالملل وتنصرف عن متابعتها.
- الإشكالية الخامسة تثير اتهامات في شكل غير مباشر إلى عموم الإعلام والإعلاميين بعدم التزامهم بالجوانب الأمنية ونقل أخبار ومناقشة موضوعات تمس بالأمن القومي أو أمن المجتمع والأفراد في شكل عام، وهو اتهام غريب يتسم بتعميم مخل، فالإعلام العربي عبر تاريخه الطويل لم يكن شراً مطلقاً، كما أن غالبية الإعلاميين العرب يعملون انطلاقاً من روح المسؤولية الاجتماعية والوطنية، صحيح أن هناك بعض الأخطاء والتجاوزات، لكن من الممكن علاجها وضبطها من خلال تطبيق مواثيق الشرف الإعلامي وتفعيل دور نقابات وهيئات الصحافة والإعلام، وعقد لقاءات وورش عمل بين الصحافيين وممثلين للأجهزة الأمنية لتوضيح أدوار كل منهما، وتحديد أولويات عمل الإعلام والأمن ووضع ضوابط لعدم التعارض بين أولويات عمل الإعلام وأولويات عمل الأجهزة الأمنية . أما عن الإشكاليات التي تثيرها السوشال ميديا، فإن هناك ضرورة لتوفير المعلومات بسرعة ودقة حتى لا نسمح بظهور الإشاعات، مع إصدار قوانين تراعي المعايير الدولية في تجرم سوء استخدام منصات التواصل الاجتماعي، إضافة إلى تفعيل دور منظمات المجتمع المدني في حماية الحقوق الاتصالية للمواطنين ورقابة الأداء الإعلامي من منظور مجتمعي أوسع من المنظور الأمني .
في ضوء الإشكاليات السابقة، أرى أن دعاة الأمن الإعلامي العرب إما أنهم لم يطلعوا على مفهوم وعمليات تأمين المعلومات أو أن بعضهم اطلع عليها من دون أن يستوعب أبعادها، وبالتالي اعتبرها تعني الأمن الإعلامي، أي إخضاع الإعلام للاعتبارات الأمنية لمواجهة تحديات الإرهاب والسوشال ميديا والأخبار الكاذبة، ومن ثم اجتهد في الترويج لمفهوم غير موجود في العالم، ما يشير إلى أننا إزاء ظاهرة هوس بعض الكتاب العرب (وليس العقل أو الفكر العربي) بالأمن ومنحه الأولوية عما عداه من متغيرات أو مجالات بحثية، وذلك في محاولات ساذجة للتقرب من بعض الأجهزة الأمنية، في هذا الإطار أذكر بمفاهيم وشعارات دعائية جرى الترويج لها في العقود الأخيرة ربطت بين كثير من المشكلات والتحديات العربية والأمن، من دون أن تتحقق في أرض الواقع مثل الأمن الفكري، والأمن الغذائي، والأمن المائي، وغيرها... لقد اختفت هذه المفاهيم من الخطاب العربي العام بعد أن فقدت صدقيتها، ويبدو أن مفهوم الأمن الإعلامي مرشح لهذا المصير، بخاصة أنه لا يستند إلى المنطق أو العلم ويسعى إلى تقييد الإعلام وحصاره في عصر تكنولوجيا الاتصال والإنترنت والإعلام الجديد.
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع