بقلم-محمد شومان
أتحدث سريعًا وبتركيز شديد عن مستقبل الإعلام المصرى، فأشير أولاً إلى عدد من المشكلات والتحديات والفرص التى يمكن رصدها فى الإعلام فى اللحظة الراهنة. ولتكن البداية بالفرص، وأهمها أن الإعلام المصرى يمتلك رأسمال رمزى موروث منذ العصر الملكى وحتى السبعينيات، وإمكانيات تكنولوجية مُرضية بالنسبة لكثير من القنوات التليفزيونية، وقوى بشرية مدربة تتكون من آلاف الإعلاميين والصحفيين، لدى بعضهم خبرات إعلامية متميزة، علاوة على كليات ومعاهد لتدريس الإعلام، وسوق كبيرة وعميقة تقارب 100 مليون مستهلك للإعلام والإعلان.
لكن، للأسف، هناك إهمال وتفريط فى التعامل مع الفرص التى توفرها هذه الإمكانيات المادية والبشرية والمعنوية، حتى إننا سمحنا لقنوات تليفزيونية عربية بإطلاق وتشغيل قنوات باسم مصر، تعتمد فى تمويلها على دخلها من السوق المصرية.
فى مقابل الفرص هناك مشكلات موروثة وتحديات صعبة، أهمها غياب الرؤية السياسية للإعلام ودوره فى المرحلة الحالية، ومصادر وآليات تمويله، لذلك نعانى من ارتباك هياكل التمويل والاستثمار فى الإعلام، والافتقار للشفافية والإفصاح والرقابة المجتمعية، وتزايد دور أهل الثقة فى إدارة المؤسسات الإعلامية المملوكة للدولة على حساب أهل الخبرة.
كما نعانى ومنذ سنوات طويلة أن تراجع مستويات المهنية، وضعف ثقة الجمهور، وأضيف إليها مؤخرا ضيق المجال العام، وعدم فاعلية دور هيئات تنظيم الإعلام الثلاث، رغم مرور عام كامل على إنشائها، حيث لا تزال هناك حاجة ماسة إلى إصدار قوانين ونظم وآليات لضبط وتطوير الإعلام، والارتقاء بمستويات الأداء والمسؤولية الاجتماعية.. لذلك يمكن القول إننا حتى اليوم ليس لدينا نظام إعلامى، لأنه يفتقر لمفهوم ومكونات النظم القانونية والتنظيمية والرقابية.
فى ضوء الأوضاع السابقة، أعتقد أن لدينا فى السنوات الخمس القادمة، وربما لفترة أطول، ثلاثة سيناريوهات للمستقبل، الأول: بقاء واستمرار الأوضاع الحالية دون تغيير، مما يؤدى إلى استمرار التكلفة الاقتصادية الكبيرة لإعلام الدولة، مع الحصول على مردود سياسى وإعلامى متواضع للغاية، حيث تدعم الحكومة الصحف القومية وماسبيرو وعددا من القنوات الأخرى التى ظهرت فى الأصل كمشروعات خاصة يمتلكها بعض رجال الأعمال. لقد حدث ارتفاع فى إنفاق الدولة على الإعلام فى السنوات الأخيرة، من الصعب تقديره، حيث لا توجد معلومات أو أرقام محددة، لكن هناك مؤشرات قوية تؤكد زيادة إنفاق الدولة، لكن المفارقة أن هذا التوسع لم يحقق المرجو منه، سواء على المستوى الإعلامى أو السياسى، فلا تزال هناك شكاوى وانتقادات من سوء الأداء الإعلامى، وعدم الالتزام بالمسؤولية الاجتماعية ومتطلبات الحرب على الإرهاب، والأمثلة كثيرة ولا يتسع المجال لذكرها.
وأعتقد أن استمرار مستويات الأداء الحالى وغياب التنوع قد يهدد ما تبقى من سمعة الإعلام المصرى ورأسماله المعنوى، والأخطر جمهوره!!، أى سيصبح إعلامًا لا يتابعه أغلبية المصريين، حيث ستنصرف قطاعات واسعة عنه لمتابعة مزيد من القنوات العربية أو الأجنبية، فضلاً عن الإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعى، ما يؤدى إلى مشكلات تهدد الأمن القومى من خلال تنامى ظهور وانتشار الشائعات والأخبار المزيفة وخلق فرص مواتية لظهور إعلامى مواز، قد تستغل بعض قنواته جماعات التطرف والإرهاب.
أما السيناريو الثانى - الأفضل من وجهة نظرى - فيقوم على امتلاك رؤية للإعلام ودوره فى المجتمع، وعلاقته بالنظام السياسى، ومصادر تمويله، وآليات الرقابة على الاستثمار المادى والبشرى فى الإعلام، بالإضافة إلى توضيح الحقوق الاتصالية للمواطنين، بما فى ذلك حقهم فى إعلام يقوم على التنوع والتعدد، وتلقى مضامين وبرامج تميز بين الرأى والخبر، وبين الإعلام والإعلان «بالنون».
فى هذا السياق، أتصور أن إعلام الخدمة العامة المستقل عن الحكومة، إلى جانب إعلام خاص حقيقى سيشكلان طوق النجاة للإعلام المصرى، وهناك تجارب عديدة للتحول من إعلام الحكومة إلى إعلام الخدمة العامة، يمكن الاستفادة منها فى صياغة نموذج مصرى جديد. ولا شك أن المجلس الأعلى للإعلام وهيئة الصحافة وهيئة الإذاعة والتليفزيون يمكن لهم قيادة عملية التحول لإعلام الخدمة العامة، حيث منحهم الدستور سلطات واسعة لتنظيم الفضاء الإعلامى. كذلك لابد من تشجيع قيام جمعيات أهلية للدفاع عن حقوق الجمهور ضد تغول الإعلان «بالنون»، وتدخل أصحاب القنوات والصحف فى السياسات التحريرية، وهنا من الضرورى دعم وتطوير نقابتى الصحفيين والإعلاميين فى ظل بيئة إعلامية غير مستقرة ومتغيرة، بسبب تطور تكنولوجيا الاتصال، واحتمالات موت الصحافة الورقية، وبدايات تراجع عالم التليفزيون بصورته الحالية.
ويبقى السيناريو الثالث الهجين، وهو خليط من السيناريوهين الأول والثانى، وستفرضه عدة متغيرات ضاغطة هى: جديد تكنولوجيا الاتصال والإعلام، وتراجع الإقبال على الصحافة المطبوعة، والمردود السياسى والإعلامى الضعيف للإعلام المصرى فى حال استمرار أوضاعه الحالية، إضافة إلى المتغير الأهم وهو الارتفاع المستمر فى التكلفة الاقتصادية وزيادة الإنفاق الحكومى على إعلام لا يحقق الأهداف والآمال المتوقعة منه، ما سيخلق صعوبات تتعلق بتحمل هذه التكلفة فى ظل متطلبات الإصلاح الاقتصادى، ومن ثم قد تلجأ الحكومة إلى إغلاق كثير من الصحف والقنوات التليفزيونية، وهنا أحذر من أن حصيلة مبيعات بعض الأصول المملوكة للصحف أو ماسبيرو لن تغطى الفجوة التمويلية أو تسد خسائر إعلام الدولة، ولن تكون كافية أيضا لتغطية عملية تطوير الإعلام المصرى حتى يتمكن من المنافسة واستعادة دوره فى المنطقة.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع